تحقيق: ليلى زيادة
في أقصى شمال السودان، حيث يلامس النيل حياة الناس، ويكتب على مياهه حكايات الكفاح والصبر، التقينا في صباح استثنائي برجل ليس كباقي الرجال. رجلٌ لم يعبر النيل فقط، بل اجتاز التحديات بإصرار يشبه مراكب “البنطون” التي يصنعها بأنامله.
جلسنا إليه في لقاء وديّ، كان فيه الإلهام حاضرًا، والصمت محمّلًا بالكثير من الحكايات.
📍 بطاقة تعريف: عباس عيسى
التفصيل المعلومة
الاسم الكامل عباس عيسى علي
المولد قرية أرقي، شمال السودان
تاريخ الميلاد منتصف ستينيات القرن الماضي
المهنة صانع بنطونات – فنان – خطاط – شاعر
التعليم حتى الصف الثاني بالمرحلة الوسطى
الهوايات الخط، الرسم، كتابة الشعر
🔹 “الرسم كان في يدي… قبل ما أكتب الحروف “
“أنا ما كملت الدراسة، لكن كملت طريقي بيدي.”
هكذا بدأ عباس حديثه بثقة. ومنذ صغره، كان يرسم الحروف ويزين بها دفاتره، ويقول:
درست في مدرسة الدبة الوسطى، لكن ما كملتها. كنت بخط وبرسم بإحساسي. الموهبة جاتني بالفطرة. الأساتذة شجعوني، وده خلاني أواصل.”
تلك الموهبة تحولت إلى مشروع حياة، لتكون الحروف الأولى بداية الحكاية، وليكون الخط والرسم نافذة على عالم أكبر من الكتب.
🔹 القصيدة… محطة عبور نحو الإبداع
في السبعينات، بدأ عباس يكتب الشعر. ويتذكر بفخر:
“الفنان صديق أحمد، وعبد الرحيم أرقي، غنّوا لي من كلماتي. كانت القصيدة متنفس ومجال للتعبير عن نفسي.”
بالرغم من قلة التعليم النظامي، تنوّعت أدواته: من الخط إلى الرسم، ومن النجارة إلى كتابة الشعر. كلها لغات متداخلة لصناعة المعنى.
🔹 الهجرة: حيث تُولد الأفكار من الغربة
في إحدى دول الخليج، عمل عباس وسط عمال من جنسيات متعددة، وكان السوداني الوحيد بينهم. يقول:
“ما كنت بفهم كلامهم كويس، لكن كنا بنتفاهم بالإشارة. لاحظت إنو شغلهم بينقصه الحس الجمالي، فكنت أضيف ليهم أفكار… وبيطبقوها.”
وهكذا، تعلّم من الغربة أكثر مما كان يتوقع. أخذ من الغربة فنون الحرفة، ومن الغربة وُلدت رؤيته الخاصة.
🔹 العودة… والبنطون الذي حمل الأمل
عند عودته إلى قريته أرقي، لم يكن في جعبته مال كثير، لكن كان يملك الحلم. افتتح ورشة بسيطة، وبدأ أول مشروع بنطون:
أول بنطون عملتو حسب الحاجة. بعدين عملت بنطون كبير دخل البحر، وصار يخدم ناس قنتي والدبة والتضامن.”
واليوم، يعمل بنطونه الثالث بكفاءة، حاملاً السيارات والبضائع والبشر — كما يحمل روحه التي لا تعرف المستحيل.
البنطون ده بيشيل على الأقل 4 بكاسي كبيرة. عملتو بإمكانياتي المحدودة. لو لقيت دعم، ممكن أعمل أكبر وأفضل.”
🔹 عن التمويل… ومخاوف البساطة
رغم أن بعض الجهات، مثل بنك أمدرمان الوطني – فرع الدبة، عرضت عليه التمويل، فإن عباس لا يزال مترددًا:
زاروني وقالوا لو طلبت تمويل بيدوني… لكن أنا بخاف من التمويل. أنا زول بسيط، ما داير أتورط.”
هو يرى أن التمويل الحقيقي هو الثقة في النفس، ويقول:
رأس المال الحقيقي هو الإرادة والفكرة .”
🔹 ورشة للشباب… الحلم الذي يكبر
عباس لا يريد أن تنتهي القصة عنده:
نفسي أفتح ورشة تدريب لشباب المنطقة، أعلمهم كيف يصنعوا البنطونات ويبنوا نفسهم بإيديهم، بدل ما ينتظروا التعيين.”
إنه يرى في الشباب امتدادًا لحلمه، ويرى في الورشة بذرةً لمستقبل أجمل.
✨ اقتباسات ملهمة من عباس عيسى
“أنا زول ما كملت تعليمي، لكن كملت طريقي… بالإرادة.”
“البنطون عندي ليس وسيلة عبور فقط ، هو لوحة قيمة تسبح في النيل.”
“أنا مؤمن إنو أي زول لقى من يدعمو، بقدر يعمل المستحيل.”
🖋️ خاتمة: حين تصير الفكرة قاربًا
قصة عباس عيسى شهادة حيّة على أن الحلم لا يموت بالفقر، ولا تُقيّده الورش البسيطة.
صانع البنطونات من أرقي، رجلٌ خطّ على صفحة النيل سيرةً لا تُنسى… بيده التي ترسم، وبقلبه الذي لا يعرف الاستسلام.
للتواصل:
يمكن زيارة ورشة الأستاذ عباس في مدينة الدبة (الولاية الشمالية).
تحقيق: ليلى زيادة | 2025