أن زيارتي للقاهرة و المكوث فيها شهرين في صيف شديد الحرارة كانت الحركة فيه محدودة بالنسبة إلي، لظروف الأخوة المقيمين هناك، لذلك تجد اليوم مقلوبا على الكل، يساهر الناس حتى الصباح، و يستقلون النهار للراحة و النوم.. الأمر الذي يجعل الالتقاء بالعديد من الناس الذين يهتمون بالسياسة متوقفة على الفرص، أو المناسبات الاجتماعية.. و رغم كل المصاعب، التقيت بعدد من الأخوة السياسيين بهدف معرفة أرائهم في مجريات الأحداث.. حيث شكل بيان “الرباعية” مادة مهمة للحوار..
أن ردود الفعل المتعلقة ب “بيان الرباعية” تبين أن القيادات السودانية عاجزة تماما على صناعة الأحداث، و أصبح دورها فقط محصورا في تعليقها على الأحداث التي تصنع خارج دائرتها.. قبل تعين رئيس الوزراء، كانت قيادة الجيش هي التي تصنع الأحداث و تتلقى ردود الفعل من قبل السياسيين المعارضين لها أو المؤيدين لها، و عندما تم تعين رئيس الوزراء كامل إدريس لكي يملأ الفراغ السياسي، و يصبح هو مصدر صناعة الحدث، إلا أن الرجل حتى الآن لم يقدم مشروعا سياسيا يخلق به حراكا سياسيا مع أو ضد، رغم أنه بشر بذلك بعد اداء القسم.. و الفترة بعد التعين كافية لكي تثبت أن الرجل مؤهل أو غير مؤهل أن يملأ الفراغ السياسي.. و للأسف أن رئيس الوزراء حتى الآن لم يستطيع أن يملأ الفراغ السياسي.. الأمر الذي جعل قيادات الجيش كل مرة تقدم تصريحات تحاول أن ترد على بعض الأسئلة التي تحتاج إلي إجابات..
إذا نظرنا للساحة السياسية نجد أن أثر الأحزاب السياسية التقليدية ضعيفا، و هي لا تصنع حدثا تتجاوب معه الجماهير، و لا تقدم مشروعا سياسيا تفعل به الساحة، و حتى ردود فعلها لا تتجاوز أماكن وجود قيادتها، الأمر الذي يجعل بيانات الرباعية و الاتحاد الآفريقي و الاتحاد الأوروبي تثير حراكا مؤقتا في الساحة.. الأمر الذي يؤكد أن هذه الأحزاب تنتظر الجيش أن يهزم الميليشيا و يسيطر سيطرة كاملة على كل التراب السوداني.. أن هزيمة الجيش للميليشيا تعني تغييرا كاملا للمشهد السياسي، و سوف تبرز قيادات جديدة هي التي سوف يكون لها القدح المعلا.. هذه المسألة تدركها الأمارات جيدا، لذلك هي ساعية بكل الطرق في دفع أموال طائلة لكي تمنع هزيمة الميليشيا بحوارات في سويسرا و المنامة و مرة الرباعية و غيرها، و كلها الهدف منها أن يكون هناك تفاوضا بين الجيش و الميليشيا لكي تعيد الميليشيا و جناحها السياسي للملعب السياسي في البلاد.. السؤال هل رئيس الوزراء مدرك لذلك؟ و هل يملك تصورا سياسيا جاذبا يجعله يتحكم في الخيوط المحركة للفعل السياسي؟..
أن الرهان على أن تأتي الحلول من الخارج، أو أن يمارس الخارج الضغط حتى يمرر أجندة بعينها للحل لا توقف الحرب بل تؤجلها لفترة قادمة، و العقل السياسي الذي ينتظر حلولا من الخارج هو عقل لا ينظر للمشكلة إلا من خلال المصالح الخاصة.. فإذا كان العقل السياسي عاجزا أن يفكر في إيجاد حلول من داخل السودان، و يسمح بالتدخلات الخارجية يصبح عقلا تابعا للذين ينتظر منهم الحل، الأمر الذي يجعله منفذا لأجندة خارجية و أداة لها.. أمثال الذين ينتظرون حلولا من الخارج غير مفيدين سياسيا، لأنهم رهنوا أنفسهم لخدمة الأجندة الخارجية، و يصبح تفاعلهم مع الأحداث بموجب اعتقاد أنها تخدم مصالحهم الخاصة، الأمر الذي يجعل الخارج متواجدا بكثافة في الشأن الداخلي السوداني، و هي مسألة تؤكد أن هناك اختلالات في التربية الوطنية يجب أعادة النظر فيها..
فالقوى السياسية الوطنية المدركة لدورها، و مؤمنة أن الأوطان لا تبني إلا بسواعد إبنائها، و أن الخارج لا يعمل إلا من أجل تحقيق مصالحه الخاصة، لا تقبل أن يتدخل الخارج في الشأن السياسي الداخلي للبلاد مهما كانت التحديات.. عندما تكون القناعات مرتبطة بالمصالح العليا للوطن و حقوق المواطنيين، تكون العزائم قوية و مانعة لتدخل النفوذ الخارجي، و لكن عندما تكون القناعات مرتبطة بالمصالح الدنيا تضعف أمام المغريات و تهبط العزائم و يصبح للخارج الكلمة العليا لأنه يشعر هؤلاء هو من يحقق مصالحهم… الخارج لا ينجح في مد أرنبة نفه في الشأن الداخلي لأية دولة إلا من خلال البناءات الرخوة فيها…
قال رئيس الوزراء بعد تعينه أنه سوف يكون على مسافة واحدة من القوى السياسية، و أنه يدعو لحوار وطني.. و الآن هو على مسافة واحدة منهم دون أن يكون له فعلا سياسيا، لكن إذا أراد أن يحرك الفعل السياسي من أين يبدأ؟ فالذي لم يمارس السياسة في حياته سوف يفشل في الفعل السياسي، و رئاسة الوزراء ليست وظيفة أكاديمية يختار لها أعلى الدرجات العلمية، أنما هي وظيفة سياسية اولا بجانب المؤهلات الأكاديمية و القدرة على الإدارة و اختيار العناصر المناسبة مع النزاهة و الشفافية.. فالأزمة التي قادت للحرب هي أزمة سياسية فشل القيادات في إدارتها،، و الحرب نتيجة للفشل.. و الآن يجب أن تدرك القيادة اسباب الفشل الأولى حتى تتجاوزها و تقود البلاد لفعل سياسي يؤمن البلاد من الأختراقات الخارجية، و أصحاب المصالح الخاص عديدين و يتلونون حسب حاجتهم… نسأل الله حسن البصيرة..