تحقيق – المجد نيوز :رجاء داؤد
مقدمة
في الوقت الذي تُعلن فيه السلطات التعليمية في السودان عن “اكتمال انتظام الدراسة بنسبة 100%”، تكشف الوثائق الرسمية وشهادات المعلمين عن صورة مغايرة تمامًا: مدارس مهدمة، معلمون نازحون ومصابون، أوبئة متفشية، وطلاب يدرسون في بيئة تنعدم فيها أبسط مقومات الحياة. هذا التحقيق يتتبع خيوط الأزمة بين ولاية الجزيرة والعاصمة الخرطوم، ويكشف تناقض الخطاب الرسمي مع الواقع على الأرض.
أولاً: الأوبئة توقف الدراسة في الجزيرة
في 18 سبتمبر 2025، أصدرت إدارة المرحلة الثانوية بولاية الجزيرة قرارًا بتعطيل الدراسة في جميع مدارس الولاية لمدة 15 يومًا ابتداءً من 21 سبتمبر وحتى 4 أكتوبر، بسبب تفشي حمى الضنك والملاريا، ولم تفتح حتي الان.
القرار الموقع من المديرة نفسية أحمد العباس يعكس حجم التدهور الصحي الذي يهدد الطلاب والمعلمين على حد سواء، في ولاية تُعتبر من أكبر مراكز التعليم بعد العاصمة.
ثانياً: الخرطوم… تصريحات رسمية وواقع مغاير
في 16 سبتمبر 2025، نقلت وكالة سونا الرسمية تصريحًا لمدير الشؤون التعليمية بمحلية الخرطوم، عمر الحاج أبو هريرة، قال فيه:
“اكتمل انتظام الدراسة بجميع المدارس بنسبة 100%”.
وأضاف المدير التنفيذي للمحلية عبد المنعم البشير:
“تم توفير الكتاب المدرسي بنسبة 100% بجانب استجلاب 100 ألف وحدة إجلاس جديدة”.
لكن بيان لجنة المعلمين السودانيين بمحلية الخرطوم فند هذه التصريحات واعتبرها “حزمة من الأكاذيب”.
🔹 بالأرقام:
من أصل 54 مدرسة ثانوية بالمحلية، لا تعمل إلا 25 مدرسة فقط.
الطلاب المتواجدون: 1,024 طالبًا وطالبة فقط.
عدد المعلمين المتواجدين: 187 معلماً ومعلمة، أي أقل من 50% من المطلوب.
نسبة الكتاب المدرسي المتوفر لم تتجاوز تاريخيًا 70%، بحسب بيان اللجنة، تاركة الأسر فريسة لـ “مافيا الكتب”.
ثالثاً: المعلم بين القصف والإهمال – قصة معلمة بامدمان مجرد نموذج
قصة المعلمة (ميم ياء) تقدم مثالًا حيًا على حجم المأساة:
في يونيو 2023، أصاب صاروخ موجّه منزلها في الخرطوم أثناء الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع.
انهارت الغرفة فوقها وابنتها وشقيقها نتيجة صاروخ تابع للجيش السوداني ، وتم إخراجهم من تحت الأنقاض بإصابات جسيمة.
لم تتكفل الدولة بعلاجهم، ولم تُقدم وزارة التربية أي دعم طبي أو حتى مساعدة في الإجلاء.
اليوم، تعيش (ميم) في إحدى دول الجوار للعلاج، بينما تصلها مخاطبات من وزارتها تطالبها بالحضور أو مواجهة الفصل.
هذه الشهادة تكشف كيف تُرك المعلمون وحيدين يواجهون الحرب والمرض والاغتراب، دون حماية أو حقوق.
رابعاً: الرسوم الباهظة والرواتب المفقودة
في الوقت الذي لم تُصرف فيه رواتب المعلمين منذ عامين، ألزم مجلس المهن التربوية والتعليمية الخريجين بدفع 65,000 جنيه رسومًا لاستخراج رخصة ممارسة مهنة التعليم (دفعة عاشرة، سبتمبر 2025).
الرسوم تُسدد عبر حسابات مصرفية محددة، في مشهد وصفه معلمون بأنه “جباية رسمية على حساب معاناة المعلمين”.
تحليل: إنكار حكومي يقود إلى الكارثة
تكشف هذه الوثائق والشهادات أن الحكومة تتعامل مع التعليم باعتباره ملفًا إعلاميًا لا قضية حياة:
تعطل المدارس بسبب الأوبئة يتم التعامل معه كأمر ثانوي.
دمار البنية التحتية يُقابل بتصريحات رسمية عن “جاهزية كاملة”.
المعلمون المصابون أو النازحون يُهددون بالفصل بدلًا من الدعم.
الأسر تُرهق بالرسوم وشراء الكتب في بلد ينهكه الفقر والنزوح.
هذا الإنكار لا يهدد فقط حق التعليم، بل يعرض الطلاب والمعلمين لمخاطر صحية ونفسية طويلة الأمد.
خاتمة
التعليم في السودان اليوم يقف بين الركام والأوبئة. وبينما تصر السلطات على ترديد خطاب “الجاهزية والانتظام الكامل”، يكشف الواقع عن انهيار خطير في أبسط حقوق الإنسان: الحق في التعلم.
المطلوب ليس بيانات منمقة، بل خطة حقيقية:
وقف الحرب التي دمرت المدارس.
الاعتراف بانتشار الأوبئة ومعالجتها.
صرف رواتب المعلمين وتعويض المصابين والنازحين.
إعادة إعمار البنية التحتية التعليمية.
حتى يحدث ذلك، سيظل الطلاب والمعلمون في السودان ضحايا حرب لا تنتهي، وسيبقى التعليم عنوانًا لأكبر مأساة إنسانية صامتة.