إذا كانت الموارد الطبيعية والإنسانية هي ثروة السودان، فإن الخدمة المدنية والإدارة هي العمود الفقري الذي يحدد ما إذا كانت هذه الثروة ستتحول إلى نهضة أو إلى خراب. وكلنا نعلم أن الخدمة المدنية في السودان كانت يوماً ما مضرب المثل في الانضباط والكفاءة، ثم تآكلت بفعل الفساد والمحسوبية والتسييس حتى صارت عبئاً على الدولة بدل أن تكون أداتها في التنمية.
الحقيقة المرة أن دولة بلا خدمة مدنية قوية لن تنهض أبداً. فالموظف العام يجب أن يكون خادماً للوطن لا خادماً للحزب، وأن يُحاسَب على الكفاءة لا على الولاء، وأن يُقيَّم بما يقدمه من إنجاز لا بما يرفعه من شعارات. لقد أنهكتنا عقود من التعيينات بالترضيات، والترقيات بالمجاملات، والإدارات المشلولة التي تقتل أي مبادرة إصلاحية قبل أن تولد.
إن الإصلاح الإداري يبدأ من إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة نفسها: دولة القانون والمؤسسات. علينا أن نعيد هيكلة الوزارات والوحدات الحكومية بحيث تخدم المواطن لا المسؤول، ونضع لوائح واضحة تضمن الشفافية والمساءلة، ونفتح الباب أمام الكفاءات الشابة لتقود التغيير.
كما أن التكنولوجيا اليوم تتيح لنا ما لم يكن متاحاً من قبل: الحكومة الإلكترونية، والرقمنة الكاملة للإجراءات، والشفافية الفورية في كل معاملة مالية وإدارية. إذا أردنا محاربة الفساد بجدية، فلابد من تجفيف منابعه الإدارية.
لقد سقطت دول عظمى لأنها أهملت إدارتها، ونجحت دول فقيرة لأنها امتلكت خدمة مدنية قوية. والسودان، إن أراد أن يخرج من أزماته، فعليه أن يخوض معركته الكبرى: إصلاح الإدارة والخدمة المدنية. بدون ذلك، ستبقى كل خطط التنمية مجرد أوراق، وكل وعود الإصلاح مجرد شعارات.
فلتكن البداية اليوم، لأن الغد لا ينتظر.