لم يعد العالم كما كان.
فالثورة المعلوماتية التي جعلت الأرض قريةً صغيرة، فقد حوّلتها في الوقت ذاته إلى غرفةٍ ضيّقة بلا أبوابٍ ولا جدران، يتسلّل منها الغريب إلى خصوصياتنا كما يشاء، ويطّلع على أسرارنا كما يشتهي.
لقد صار الإنسان يعيش في فضاءٍ مفتوحٍ إلى حدّ العُري الرقمي، إذ لا يملك فيه سوى أن يتمنى الأمان!
نحن في زمنٍ أصبحت فيه المعلومة رأسَ المال الحقيقي، بل هي العملة الأغلى في سوق الأسافير، لم يعد الخطر في فقدانها فحسب، بل في سرقتها، وتحويرها، واستعمالها سلاحًا ضد صاحبها.
كم من أُسرٍ تهدّمت، وصداقاتٍ تقطّعت، ومؤسساتٍ انهارت، لأنّ أحدهم اخترق حسابًا أو تسلّل إلى بريدٍ إلكتروني أو خدع برئياً بمهارةٍ رقميةٍ شيطانية!
ومن هنا تتعاظم الحاجة إلى أمن المعلومات، لا كشعارٍ تقنيّ، بل كمنظومةٍ وطنيةٍ وتشريعيةٍ صارمة، تُدرك أنّ أمنَ الإنسان اليوم لم يعد في بيته أو ماله، بل في بياناته وهويته الرقمية.
ولأنّ الجرائم الإلكترونية لا تقلّ خطرًا عن الجرائم الجنائية، بل قد تفوقها أثرًا، فإنّ الحاجة أصبحت ماسّة لإنشاء نيابةٍ متخصّصة لأمن المعلومات وحسناً فعلت حكومة الأمل بإجازتها لقانون أمن المعلومات ، ونيابة ذات صلاحياتٍ واسعة، وإجراءاتٍ سريعة، وأحكامٍ رادعة. ويجب ألا تشبه هذه النيابة سواها من النيابات، فالميدان مختلف، والمجرم مختلف، والأداة مختلفة. وينبغي أن
يُختار لها الأكفاء الأمناء الأقوياء، ممن يجمعون بين الفهم العميق للتقنية، والإدراك الدقيق لخطورة الجريمة الرقمية.
وتُعتمد فيها التقنية في كل مراحل التقاضي، من البلاغ إلى التحقيق إلى الحكم، لتكون العدالة نفسها رقمية السرعة، شفّافة الدليل، محكمة الإجراء.
كما يجب أن تتسع مظلة أمن المعلومات إلى أدنى المستويات الإدارية جغرافياً ، فالقُرى والأحياء باتت جزءًا من الشبكة الكبرى، والجريمة لم تعد حكرًا على المدن.
وما لم نؤسّس منظومة حمايةٍ شاملة، فإنّ المجتمع سيتآكل من الداخل، في حربٍ صامتةٍ لا يسمعها إلا من يفقد خصوصيته أو يُسلب اسمه.
إنّ أمن المعلومات اليوم ليس رفاهًا تقنيًا، بل هو درعُ البقاء في زمن اللاحدود.
ولعلّ من أعظم ما نحتاجه هو وعيٌ جمعيّ بأنّ الوقاية من الاختراق لا تكون بتطبيقٍ جديد أو كلمة مرورٍ معقّدة فحسب، بل بثقافةٍ أمنيةٍ تُغرس في المدارس، وتُمارس في المؤسسات، وتُحترم في القوانين.
فكما كانت الدولة في الماضي تُقيم الحصون لحماية حدودها، فإنّ عليها اليوم أن تُقيم أسوارًا رقميةً تحمي عقولها وقلوبها وبياناتها، لأنّ من فقد أمنه المعلوماتي، فقد ذاته في زمنٍ لا أمان فيه إلا للمحترز.