في الأوقات العصيبة التي تمرّ بها الأمم، تلجأ الدول عادةً إلى تعزيز مؤسساتها المالية والاقتصادية كحائط صدّ أخير ضد الانهيار المحتمل. لكن في السودان يبدو ما يحدث هو العكس. ففي خضم صراع متعدد الوجوه – سياسي، اقتصادي، وأمني – يعيش بنك السودان المركزي حالة من الارتباك الممنهج .
فأن يُعيَّن سبعة محافظين خلال ست سنوات، في بلد يئنّ تحت وطأة التضخم والانكماش وتدهور سعر الصرف، ليس مجرد خلل إداري، بل تعبير صريح عن غياب الإرادة المؤسسية وافتقار الرؤية. فبين قرارات الإعفاء والتعيين تضيع فرص بناء المؤسسات الراسخة، وتغيب مساحات التخطيط السليم ، ويغيب معها أهم ما تحتاجه البلاد في ظرفها التاريخي الحرج : الاستقرار.
منذ سقوط نظام البشير عام 2019، لم تنجح أي حكومة في ترسيخ استقلالية البنك المركزي كما نصّت عليها الوثيقة الدستورية. ويكفي أن نستذكر ذلك المشهد الشهير حين سُئل رئيس الوزراء الأسبق د. عبدالله حمدوك عن الجهة التي يتبع لها البنك المركزي، فتلعثم وأحال الامر إلى رئيس مجلس السيادة، رغم أن الوثيقة كانت تنص صراحة على تبعيته الي رئيس الوزراء.
إن قرار إقالة المحافظ د. برعي الصديق وتعيين السيدة آمنة ميرغني التوم خلفًا له، قد يبدو للبعض مجرد تغيير روتيني، غير أن القراءة العميقة تكشف أنه استمرار لمعادلة مختلّة، يُستخدم فيها البنك المركزي كأداة لتصفية الحسابات السياسية وتمرير أجندات مرحلية، لا كرأس رمح للسياسة النقدية الوطنية.
قد يكون مفهوماً أن تُرفض رؤية مسؤول ما إذا تعارضت مع سياسات الدولة، لكن المقلق في السياق السوداني أن الإقالة أصبحت أداة للتفاعل السياسي لا لتصحيح المسار المهني. وغالبًا ما تتم التغييرات في قمة الهرم المصرفي دون إعلان واضح للأسباب، وتُربط بخلافات داخل الاجتماعات الوزارية أو الصراعات حول ملفات حساسة، كما حدث مؤخرًا في الخلاف بين المحافظ المقال ووزير المالية بشأن سيطرة البنك على صادر الذهب.
تعيين السيدة آمنة ميرغني، وهي أول امرأة في تاريخ السودان تتولى هذا المنصب، يحمل في ظاهره رسالة إيجابية تجاه تمكين النساء والاستفادة من الكفاءات الوطنية. غير أن التحديات أمامها جسيمة؛ فالموقع الذي تدخل إليه ليس موقعًا للتمثيل الرمزي، بل مركز اشتباك سياسي–اقتصادي معقد، يحتاج إلى أكثر من سيرة ذاتية مشرفة.
فالنجاح في هذا المنصب مرهون بقدرتها على فرض حدٍّ أدنى من الاستقلالية، ومقاومة التدخلات، ووضع رؤية شاملة تعيد للبنك دوره الطبيعي كمؤسسة تقود السياسة النقدية لا كجهاز تنفيذي لتوجيهات فوقية.
ولعل التجربة اللبنانية القريبة في العام 2019 تصلح درسًا بليغًا، حين تحوّل مصرف لبنان من أحد أبرز البنوك المركزية في المنطقة إلى قلب الأزمة. حافظت الدولة اللبنانية لعقود على سعر صرف ثابت مصطنع، بينما كانت السياسات النقدية تتآكل، واستُخدم البنك المركزي في تمويل العجز، وتُركت الأسواق في قبضة شبكات المصالح السياسية والمصرفية، فكانت النتيجة انفجارًا اقتصاديًا فقد فيه المواطن ثقته في العملة والبنك والدولة نفسها.
الوجه الشبيه في التجربتين واضح: غياب الاستقلالية، تسييس القرار النقدي، صراع بين المالية والبنك المركزي، ومحاولات ترقيع مثل احتكار الذهب أو طباعة العملة بلا ضوابط. كلها مظاهر تُنذر بإعادة إنتاج السيناريو اللبناني في نسخة سودانية أكثر هشاشة.
لكن الفارق أن السودان ما يزال يملك نظريًا فرصة للنجاة، شرط أن يُعترف أولًا بأن التحدي الحقيقي ليس في تغيير الأشخاص بل في إعادة بناء المنظومة والقانون. يبدأ ذلك بإعادة الاعتبار لاستقلالية البنك المركزي، وضبط العلاقة بين السياسي والمهني، وتحقيق التناغم بين السياسات المالية والنقدية، وانفتاح البنك على المجتمع المصرفي والدولي.
إن تعيين السيدة آمنة ميرغني يحمل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة السودانية على الانتقال من الارتجال إلى الرؤية، ومن إدارة الأزمات إلى إدارة المؤسسات. فليس المهم من يجلس على كرسي المحافظ، بل ما إذا كانت السلطة قادرة على احترام حدود المهام وفصل الاقتصاد عن صراع المصالح.
السودان اليوم لا يحتاج إلى محافظ جديد بقدر ما يحتاج إلى إصلاح مؤسسي عميق، يعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة. فكلما استُبدل المحافظ بسبب خلاف سياسي لا فشل فني، دفع الشعب الثمن من قوته ومستقبله.
أما السيدة آمنة، فإن نجاحها أو فشلها لن يُقاس بعدد القرارات أو النوايا، بل بقدرتها على الصمود أمام التدخلات، وفرض استقلالية حقيقية للبنك المركزي، واستعادة الثقة المفقودة في المؤسسات الوطنية.
ويبقى السؤال الجوهري بحسب #وجه_الحقيقة : هل نعيش لحظة إصلاح حقيقية ؟ أم مجرد فصل جديد من دراما اللا استقرار ؟
دمتم بخير وعافية.
الاربعاء 15 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com