الأربعاء, أكتوبر 15, 2025
الرئيسيةمقالاتعصام حسن علي يكتب ردود الفعل الشعبية في السودان: دعم واسع للبرهان رغم العقوبات الدوليةالذهب السوداني بين أعلى وأدنى سعر عالمي: مليارات الدولارات تتسرب خارج القنوات...

الذهب السوداني بين أعلى وأدنى سعر عالمي: مليارات الدولارات تتسرب خارج القنوات الرسمية. إعداد: أبوعبيده أحمد سعيد محمد saeed.abuobida5@gmail.com


يُعدّ الذهب اليوم الركيزة الأهم للاقتصاد السوداني بعد تراجع صادرات النفط والقطاعات الزراعية، لكنه ما يزال يشكّل لغزًا محيّرًا في معادلة الدخل القومي. فبينما تتزايد كميات الإنتاج عامًا بعد عام، يظل العائد الرسمي من التصدير متواضعًا، وكأن الذهب يلمع في الصحاري ويبهت في خزائن الدولة.
شفافية تُحسب للشركة السودانية للموارد المعدنية
في خطوة إيجابية تستحق الإشادة، كشفت الشركة السودانية للموارد المعدنية في تقريرها الدوري للفترة من يناير إلى سبتمبر 2025 أن الإنتاج بلغ 53 طنًا من الذهب خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، بعائدات رسمية قُدرت بنحو 909 ملايين دولار، إلى جانب إيرادات محلية بلغت 966 مليار جنيه سوداني.
وأشار التقرير إلى أن قطاع التعدين شهد قفزة في الإيرادات بلغت نحو 300 مليار جنيه مقارنة بالأعوام السابقة، ما يعكس تحسنًا إداريًا وتنظيميًا في المتابعة الميدانية.
غير أن التقرير لم يُوضح ما إذا كانت كل الكميات المنتجة قد تم تصديرها بالفعل أم لا، وهو ما يترك الباب مفتوحًا أمام احتمالات الفاقد غير المسجل.
الذهب السوداني في مواجهة الأسعار العالمية
شهدت الأسواق العالمية خلال الفترة نفسها تقلبات واضحة، إذ بلغ أعلى سعر عالمي للأونصة نحو 2,680 دولارًا ما يعادل 86.2 دولارًا للجرام)، في حين تراجع أدنى سعر إلى نحو 2,460 دولارًا للأونصة (79.1 دولارًا للجرام.
وبما أن الذهب السوداني يُصدّر غالبًا بعيار 21 بنقاء يعادل 87.5% من عيار 24 ، فإن قيمته السوقية تتباين تبعًا للأسعار العالمية.
ففي حال احتُسب الإنتاج عند أعلى سعر عالمي، تبلغ القيمة السوقية للـ53 طنًا نحو 3.99 مليار دولار، مقابل 909 ملايين دولار فقط كعائد رسمي، أي فاقد يقارب 3.08 مليارات دولار.
أما عند أدنى سعر عالمي، فتصل القيمة السوقية إلى نحو 3.66 مليار دولار، ومع ذلك يبقى الفاقد كبيرًا — يقارب 2.75 مليار دولار.
بمعنى آخر، حتى في أدنى الظروف السعرية، فإن نحو ثلاثة أرباع الذهب المنتج لا يدخل القنوات الرسمية ويغادر البلاد عبر مسارات غير مشروعة.
اتساع الفجوة السنوية
عند استقراء معدل الإنتاج السنوي ليصل إلى نحو 71 طنًا، تتضح ضخامة الفاقد.
فإذا احتُسبت القيمة على أساس الأسعار العالمية العليا، تبلغ 5.3 مليارات دولار سنويًا، بينما لا تتجاوز العائدات الرسمية 1.2 مليار دولار — أي خسارة تفوق 4 مليارات دولار.
وحتى عند الأسعار الدنيا (نحو 4.9 مليارات دولار)، تبقى الفجوة التهريبية في حدود 3.7 مليار دولار، وهو رقم يعادل تقريبًا العجز السنوي في الميزان التجاري السوداني.
الأسباب الجذرية: الاحتكار والضرائب
تتفق معظم الدراسات الاقتصادية على أن الاحتكار الحكومي لتصدير الذهب وارتفاع الضرائب والرسوم التي تتجاوز أحيانًا 25% يمثلان السبب الرئيس لاستمرار التهريب.
وفي المقابل، لا تتجاوز النسب الضريبية في دول الجوار مثل تشاد وتنزانيا وزامبيا حاجز 6 إلى 9%، ما يدفع المعدنين والتجار إلى التهريب بحثًا عن أسعار أكثر عدالة.
خفض الضرائب — بخلاف ما يُعتقد — لا يعني بالضرورة تقليل الإيرادات الرسمية، بل يسهم في تضييق الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي، مما يشجع المنتجين على البيع عبر القنوات القانونية ويزيد من ثقة السوق المحلية.
سيناريوهات ممكنة لتقليل التهريب
في ظل الواقع الحالي، حيث الضرائب المرتفعة واحتكار الحكومة للتصدير، تُقدّر نسبة التهريب بين 78 و80% من إجمالي الإنتاج.
أما إذا خُفضت الضريبة إلى حدود 6% مع بقاء الاحتكار، فمن المتوقع أن تتراجع النسبة إلى 60–65%.
وفي حال جُمِع بين خفض الضريبة إلى 10% وفتح باب التصدير للقطاع الخاص ضمن إطار رقابي منظم، فمن المرجح أن تنخفض نسبة التهريب إلى 40–50% فقط.
وتؤكد تجارب تنزانيا وزامبيا أن الانفتاح التدريجي المقترن برقابة صارمة هو السبيل الأمثل لزيادة العائدات الرسمية وتقليل الفاقد.
من الفاقد إلى الفرصة
الفجوة التهريبية ليست مجرد رقم مالي، بل مؤشر لخلل هيكلي في السياسات الاقتصادية.
فكل انخفاض بمقدار 10% في حجم التهريب يمكن أن يضيف أكثر من مليار دولار سنويًا إلى احتياطي البلاد من النقد الأجنبي.
إن خفض الضرائب، وفتح السوق أمام القطاع الخاص، وربط عمليات الإنتاج والتداول بنظام رقابة إلكتروني من المنجم إلى الميناء، يمكن أن يحوّل الذهب من مورد مهدور إلى رافعة مالية وطنية تعيد التوازن للاقتصاد السوداني.
التوصية الإضافية: نحو بورصة وطنية للذهب ونظام تتبع شامل
لتحقيق الاستفادة القصوى من هذا المورد الحيوي، تبرز الحاجة الملحّة إلى تفعيل بورصة وطنية للذهب تكون منصة مركزية لتسعير وتداول المعدن النفيس بشفافية، وربطها بالأسواق الإقليمية والعالمية.
كما يجب قصر التصدير على الكميات المصفاة محليًا لضمان القيمة المضافة، ومنع تصدير الخام الذي يبدد العائد الوطني.
إضافة إلى ذلك، يتطلب الأمر تنظيم عمليات البيع والشراء داخل السودان بتراخيص رسمية، مع تطبيق نظام تتبع إلكتروني شامل يسجل كل غرام من لحظة إنتاجه حتى تصديره.
هذه الخطوات، إذا ما نُفذت بدقة وشفافية، كفيلة بأن تجعل الذهب السوداني مصدرًا مستدامًا للنقد الأجنبي، بدلاً من أن يظل بابًا مفتوحًا للنزيف الاقتصادي.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات