ليست الأحداث الكبرى في تاريخ الأمم مجرد وقائع عابرة تُطوى بانتهاء نشرات الأخبار، بل هي علامات فارقة، تصوغ الوعي، وتعيد تشكيل المسار التاريخي. وفي هذا السياق، يمثل تحرير الخرطوم لحظة مفصلية، ليس فقط في الشأن السوداني، بل في مسيرة الانبعاث الإسلامي والعربي، وفي وعي الأمة كلها.
فما جرى في الخرطوم لم يكن مجرد تحول عسكري، بل إعلان ولادة واقع جديد. شعب قرر أن يرفض مشاريع التقسيم والتبعية، وأن يصنع مستقبله بإرادته، وأن يُعيد للسيادة معناها الحقيقي. عاصمة العرب في قلب إفريقيا تنفض عنها غبار الفوضى، وترفع راية الاستقلال، ليعود السودان فاعلاً في معادلات المنطقة، لا تابعًا في مشاريع الخارج.
تحرير الخرطوم ليس لحظة منفصلة، بل جزء من سياق متصل بدأ من انتصار أفغانستان على الاحتلال الأمريكي، ومرّ بصمود الثورة السورية، وانفجر في طوفان الأقصى، وصولًا إلى هذه اللحظة السودانية النبيلة. كلها تعبير عن يقظة شعبية، ورفض لقرن من التبعية والانكسار، وبداية لصياغة مشروع حضاري جامع.
القرن العشرون شهد تمزيق الأمة، وسقوط خلافتها، وفرض أنظمة وظيفية ربطت مصير الشعوب بالمستعمر. أما اليوم، فنحن على أعتاب مرحلة جديدة، تتشكل ملامحها من ميادين المقاومة، ومن إرادة الشعوب، ومن إيمان راسخ بأن الاستقلال لا يُوهب، بل يُنتزع.
التحرير الذي تحقق على أرض ولاية الخرطوم، ويتمد الى ان يتحرر الوطن باكله، لا ينبغي أن يُقرأ فقط كمكسب عسكري، بل كبوابة لعقد جديد، يؤسس للسيادة والعدالة والتنمية. إنه نداء للمفكرين والعلماء والنخب بأن هذه اللحظة ليست نهاية الطريق، بل بدايته: فكيف نحمي النصر؟ كيف نحوّله إلى مشروع وطني جامع؟ وكيف نبني وعياً جديداً يُحصّن الأمة من الارتداد؟
نحن أمام فرصة نادرة لتأسيس مشروع وطني نهضوي، يعيد للسودان مكانته، ويجعل منه منصة للتأثير في محيطه العربي والإفريقي والإسلامي، لا ساحةً للتجاذبات الإقليمية. مشروع يجمع بين الإيمان بالحق، والقدرة على التخطيط، والإرادة على الصمود.
إن الانتصار الذي تحقق في الخرطوم ليس ملكاً لحزب أو جماعة أو مكون بعينه، بل هو إرث وطني وأمة بأكملها. ولذلك، فإن من الواجب اليوم أن نتجاوز حسابات اللحظة، ونرتقي إلى مستوى التحدي الحضاري الكبير.
فالتحية لكل من صمد، وقاوم، وثبت على المبادئ. والتحية للجيش السوداني الذي أعاد تعريف البطولة في زمن التزيف، وأثبت أن الجندية الصادقة لا تزال حصناً للأوطان. ولتكن الخرطوم شاهداً على أن هذه الأمة إذا أخلصت النية، وحددت البوصلة، فإن طريق النصر مفتوح أمامها مهما طال الطريق.