لم تعد الكاميرا في زمن الحرب أداة توثيق محايدة أو وسيلة للإعلام فحسب، بل تحوّلت إلى سلاحٍ فتاك في يد من لا يؤمنون بالقانون أو الأخلاق. فمليشيا الدعم السريع المتمردة، التي عُرفت بدمويتها وبطشها ضد المدنيين، أدركت مبكرًا أن السيطرة لا تكون بالسلاح وحده، بل بالخوف والارهاب، وأن الرعب حين يُزرع في النفوس يغني عن ألف طلقة ومئة دانة. ومن هنا، أصبح التصوير جزءًا من منظومة العنف المنهجي الهمجى، يُخطط له ويُدار بعناية، تمامًا كما تُدار المعركة.
تدار بخبراء أجانب يعرفون قيمة الصورة والدعاية مثلما فعل النازيون والفاشيون
في المشهد السوداني الراهن، لم يعد التصوير مجرد عمل توثيقي، بل تحول إلى أداة حرب نفسية منظمة. فعناصر الدعم السريع يتعمدون تصوير جرائمهم الوحشية – من القتل، والنهب، والإهانة، وانتهاك الأعراض، وتدمير الممتلكات العامة والخاصة – ثم نشرها على نطاق واسع عبر وسائط التواصل الاجتماعي.لتصل لكل العالم
الغاية ليست الشهرة أو التوثيق، بل زرع الرعب في قلوب المدنيين والمقاتلين على حد سواء.
الكاميرا هنا تؤدي وظيفة الرصاصة، لكنها تضرب في أعماق الوعي والعقل، فتُحطم معنويات الجماهير، وتكسر صمود المدن، وتُدخل اليأس إلى النفوس. وتجعل الجنجويد بعبع تهابه النفوس ويجب الفرار من أمامه
إن التغيير الديمغرافي لا يتم دائمًا بالقوة العسكرية المباشرة، بل أحيانًا عبر بث الرعب والإرهاب حتى يهاجر الناس طوعًااو كرها وهكذا تفعل مليشيا الدعم السريع المتمردة:
تصور المشاهد المروعة للمجازر، للحرائق، وللجثث الملقاة في الطرقات، للإغتصاب ثم تنشرها بين الناس. فيبدأ سكان القرى والمدن بالنزوح خوفًا من المصير نفسه.
تفرغ المناطق من سكانها الأصليين، لتستبدل بأتباع المليشيا أو بمن يوالونها، فيتحقق التهجير القسري بصيغة جديدة — تهجير بالكاميرا لا بالمدفع والبنادق
إنها خطة مدبرة وليست تصرفات عشوائية. فالتصوير يستخدم ضمن سياسة متكاملة تستهدف السيطرة على الجغرافيا عبر تفريغها من سكانها، وتبرير الجرائم لاحقا بأنها عمليات تحرير أو حروب ضد العدو
وما ينشر من مشاهد السلب والقتل لا يسرب صدفة، بل ينقح ويعدّ للنشر بعناية فائقة، في إطار إعلام الحرب الذي تتبناه المليشيا.
يدرك مرتزقة الحرب أن الرعب أقوى من الرصاصة. فحين يصور المقاتل وهو يقتل أو يهان، كالطلقة تصيب اللقطة زملاءه بالشلل النفسي، ويصبحون في موقع الدفاع بدل الهجوم.والفرار بدل الثبات
وهكذا تفرض حالة الخوف والهلع الجماعي عبر مشاهد مختارة بعناية: مقاتلون أُسروا، مدنيون يهانون، جنود يقتلون بدم بارد.
هذه الصور تبث على نطاق واسع لتقول ضمنيًا: نحن نسيطر الأرض ، والمقاومة عبث وموت
إنها حرب نفسية ، تستخدم فيها الكاميرا كقنبلة معنوية، تحدث انفجارًا داخليًا في الروح الوطنية. والنتيجة: تراجع المهاجم، وتفكك الثقة، وتهديد وحدة الصف.
من أخطر ما تفعله مليشيا الدعم السريع هو تزييف الوقائع عبر التصوير. فهي لا تكتفي بتوثيق جرائمها، بل تعيد إنتاج المشهد ليظهر كأنه نصر ميداني أو عملية تحرير، فتقلب الضحية إلى جانٍ جبان ، والجاني إلى محرر شجاع .
يقتل الأبرياء والمدنيون ثم يقال: هؤلاء متمردون. تدمر المدن ثم يُقال: هذه أوكار للعدو.
وما ينشر من مقاطع مصورة يبنى على حبكة مدروسة، فيها إخراج وتمثيل وتوجيه للمشاعر، وكأننا أمام سينما حرب لا واقع حرب.
بهذا الشكل تستخدم الكاميرا كسلاح مزدوج: تزرع الخوف وتبرر الجريمة.
وهي لا تستهدف الداخل السوداني فقط، بل الرأي العام الخارجي أيضًا، لتغطي على حقيقة ما يحدث من تطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية.
من منظور القانون الدولي الإنساني، فإن التصوير المقصود لضحايا النزاع على نحو يهدف إلى الإهانة أو الترهيب يعد جريمة قائمة بذاتها، لأنه ينتهك كرامة الإنسان.
اتفاقيات جنيف نصّت على احترام كرامة الأسرى والمدنيين، ومنع نشر صورهم على نحو مهين.
لكن مليشيا الدعم السريع المتمردة جعلت من التصوير أداة إذلال متعمدة، تستخدم ضد الأسرى والضحايا، ما يشكل انتهاكا صارخا لكل القوانين والمواثيق الدولية.
إن هذه الجرائم المصورة لا تسقط المسؤولية، بل تضاعفها. فالصورة هنا ليست دفاعًا، بل دليل إدانة دامغ، وستكون لاحقا بينة مباشرة أمام المحاكم الدولية لإثبات القتل العمد، والإهانة، والتهجير القسري، والتحريض على الكراهية. والإبادة الجماعية وهتك العروض
ما بين الرصاصة والكاميرا، لم يعد الفرق كبيرًا في ميدان الحرب النفسية.
فالكاميرا تقتل المعنويات، وتزرع الهلع والخوف والرعب، وتحدث نزوحا جماعيا بلا طلقة واحدة.
وهذا هو جوهر خطة مليشيا الدعم السريع المتمردة أن ترعب الشعب حتى يرحل، وتخيف الجنود حتى يتراجعوا، وتسيطر على الأرض بوسائل تبدو غير عنيفة لكنها أشد فتكًا.
إن مقاومة هذا السلاح الجديد لا تكون بالصمت، بل بفضحه، وبكشف أهدافه الحقيقية، وبالرد عليه بإعلام وطني حر ومسؤول يواجه الصورة بالصورة، والوعي بالوعي.
فما لم يفهم أن الحرب اليوم تدار بالهواتف قبل البنادق، سيظل العدو متفوقًا في الميدان النفسي مهما خسر في الميدان العسكري.
حفظ الله السودان شعبا وارضا
والله المستعان
عبدالشكور حسن احمد
المحامى
