السبت, أكتوبر 4, 2025
الرئيسيةمقالاتالسودان بين مجد الأمس وتحديات الحاضر: مقارنة في محافل الأمم المتحدة ...

السودان بين مجد الأمس وتحديات الحاضر: مقارنة في محافل الأمم المتحدة بقلم : مهدي داود الخليفة

منذ انضمامه إلى الأمم المتحدة في أعقاب الاستقلال عام 1956، كان السودان رقماً مهماً في الساحة الدولية، يُقدِّم صورة دولة نامية فتية، لكنها واثقة، ذات دور إقليمي ودولي يتجاوز حجمها الجغرافي. وقد تجلى هذا الدور في محطات عديدة أبرزها الدورة الثالثة عشرة للجمعية العامة عام 1958، حين برز اسم وزير الخارجية السوداني محمد أحمد محجوب كمرشح توافقت عليه الدول العربية و الأفريقية لرئاسة الجمعية العامة.

رغم تدخل الولايات المتحدة ومعها قوى غربية لإسقاط ترشيحه ودعم منافسه اللبناني شارل مالك، إلا أن محجوب أظهر للعالم صورة دبلوماسي رفيع، يملك الكرامة والقدرة على مخاطبة القوى العظمى بندّية. خطابه بعد خسارته الانتخابات لم يكن خطاب انكسار بل خطاب قائد يعرف كيف يحوّل الخسارة إلى مكسب أخلاقي، وقد خرج السودان من تلك التجربة أكثر احتراماً بين دول العالم. لم يكن محجوب مجرد وزير، بل كان رجل دولة ودبلوماسياً محنّكاً، وهو ذاته الذي لعب لاحقاً دوراً محورياً في مؤتمر الخرطوم 1967 الذي أصلح بين الرئيس جمال عبد الناصر والملك فيصل، مثبتاً مكانة السودان كوسيط عربي إفريقي يحظى بالثقة.

انتقل المشهد بعد عقود إلى الدورة السادسة والسبعين عام 2021، حين وقف رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك أمام الجمعية العامة ممثلاً لشعب أطاح بدكتاتورية عمر البشير عبر ثورة ديسمبر المجيدة. ظهر حمدوك بصفته زعيماً مدنياً مفوضاً من الجماهير، في مشهد لم يعرف السودان مثيلاً له منذ أيام الإمام المهدي وإسماعيل الأزهري. وقد استُقبل خطابه بتقدير واحترام دولي بالغين، حتى أن الأمم المتحدة خصصت له فعالية رفيعة المستوى بحضور الأمين العام وأكثر من ثمانين دولة دعماً لمسار الانتقال الديمقراطي. حمدوك تحدث عن السلام، العدالة، والحرية، وجعل السودان مرة أخرى مركز اهتمام العالم، لا باعتباره أزمة إنسانية او أمنية بل تجربة أمل مدني ديمقراطي ناشئ.

لكن للأسف، انقطع هذا المسار سريعاً. فالانقلابات العسكرية، ثم الحرب الأهلية الطاحنة، دفعت السودان إلى حافة الانهيار. وهكذا وصلنا إلى الدورة الثمانين عام 2025، حيث اعتلى المنصة رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس. رجل له تاريخ و خبرة في الأمم المتحدة، إلا أنه جاء بتعيين من قيادة عسكرية، في محاولة لإضفاء “مسحة مدنية” على حكم عسكري مطلق. ورغم ان خطابه حاول فيه استخدام لغة إنسانية مؤثرة سعيا لكسب تأييد الحضور، غير ان مضامين الخطاب احتوت على معلومات غير دقيقة. إلا أن الحضور الدولي لم يتعامل معه بالوقار و الاحترام ذاتهما اللذين حظي بهما محجوب أو حمدوك، نظرا لأن خلفيته السياسية لا تستند إلى تفويض شعبي حقيقي بل إلى ترتيبات فرضتها بنادق العسكر.

بهذا يمكن القول إن تاريخ السودان في الأمم المتحدة هو مرآة لمساره الداخلي:

  • في 1958، كان السودان مستقراً، يحظى بالاحترام، ويمتلك قادة من طراز محمد أحمد محجوب.
  • في 2021، كان السودان على أعتاب تحول تاريخي، بزعيم مدني مؤيد شعبياً كعبد الله حمدوك، يحظى بدعم العالم.
  • أما في 2025، فقد غرق السودان في حرب أهلية تهدد وحدته، وجاء رئيس وزراء بلا قاعدة شعبية ليعكس مأزق الدولة ومحاولات التغطية على حكم عسكري بواجهة مدنية.

إن مقارنة هذه المراحل الثلاث تكشف عن حكاية بلدٍ كان واعداً، يسير بخطى ثابتة نحو التقدم والازدهار، لكنه عانى من لعنة الحكم العسكري الممتد، الذي أطاح بالديمقراطية، وأفقد السودان احترامه، وجرّه إلى حافة التشظي والتقسيم.

إن السودان الذي كان دينمو للدبلوماسية العربية و الأفريقية في عهد محجوب، والذي استعاد الأمل مع حمدوك، قادر على النهوض مجدداً إذا استعاد شعبه زمام المبادرة، وأنهى الحرب، وفرض حكماً مدنياً حقيقياً لا تجميلياً. العالم لا يزال ينظر إلى السودان كأرض حضارة عظيمة، لكنه ينتظر أن يرى من أبنائه قيادة تعيد له صوته وهيبته، بعيداً عن عسكرة الدولة وعن الوجوه المزوّقة بلا شرعية.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات