مقدمة: الجنيه بين الواقع والمشهد
الجنيه السوداني يواصل انهياره اليومي أمام العملات الأجنبية، ما ينعكس مباشرة على الأسعار والقدرة الشرائية للمواطنين. في مثل هذا الواقع، يصبح استقرار سعر الصرف أشبه بـ”سلاحٍ اقتصادي”، لكن فعاليته مرهونة بوجود سياسات نقدية ومالية متوازنة، ومؤسسات قادرة على فرضها.
من الذهب إلى الضعف: رحلة الجنيه عبر التاريخ
• عند صدوره رسميًا عام 1957، كان الجنيه مدعومًا بالذهب: كل جنيه = 2.55187 جرامًا من الذهب الخالص.
• قيمته الحديثة تعادل: 303 دولار أمريكي تقريبًا أو نحو 1,136 ريال سعودي.
محطات التدهور:
• قبل 1979: سعر صرف ثابت وثقة عالية من المستثمرين.
• بعد 1979: ظهور السوق الموازي وازدواجية الأسعار.
• التسعينيات: التعويم الجزئي والزاحف، لكنه افتقر إلى الشفافية والتنسيق.
• اليوم: فقدان الجنيه أكثر من 545% من قيمته في أقل من عامين (من 560 جنيهاً للدولار في أبريل 2023 إلى 3613 جنيهاً في أكتوبر 2025).
أرقام تكشف عمق الأزمة الحالية
• الدولار: من 560 الي 3613 جنيهاً (+545%).
• أسعار الذهب بعطبرة:
• بتاريخ 30 سبتمبر2025 سعر جرام الذهب الكميات الكبيرة أكثر من 20 ألف جرام 368,000 جنيه/جرام عيار 21.
• بتاريخ الأول من أكتوبر 2025 سعر جرام الذهب الكميات الكبيرة أكثر من 20 ألف جرام 375,000 جنيه/جرام عيار 21.
• زيادة يومية: 7,000 جنيه للجرام (+1.9%)
• عالمياً: الأونصة عند 3,879.28 دولار، لكن السعر المحلي ارتفع بوتيرة مضاعفة بفعل الانهيار الداخلي للجنيه والمضاربة.
غياب البنك المركزي… وتراجع دور الوزارات الاقتصادية
• البنك المركزي غائب: لا يضخ عملات أجنبية ولا يسيطر على المعروض النقدي وبإصداره لمنشوره 14/ 2025 بتاريخ 14 سبتمبر2025 باحتكار صادر الذهب فقد خلق بيئة اقتصادية مواتية للمضاربة المحلية في الذهب (وزاد الطين بله) تكرار لسياسات فاشلة 2012-2020.
• وزارة المالية: عاجزة عن إعداد موازنة حقيقية.
• وزارة التجارة: فقدت أدواتها الرقابية.
• وزارة المعادن والشركة السودانية للموارد المعدنية: غابت عن تنظيم وضبط الإنتاج والمتاجرة في الذهب بالسوق المحلي، ما سمح بتحويل الذهب من مورد استراتيجي إلى أداة للمضاربة المالية وتخزين القيمة خارج الجهاز المصرفي.
الذهب والدولار: اقتصاد موجه بالمضاربة
• الذهب أصبح عملة بديلة: تسعير مختلف حسب الكميات (أكثر من 20 ألف جرام / أقل من 500 جرام).
• الدولار تحول إلى العملة المرجعية لكل التعاملات التجارية.
• القفزة اليومية في سعر الذهب محليًا (7,000 جنيه في يوم واحد) بلا مبرر عالمي، ما يؤكد أنها مضاربة داخلية.
• رأس المال يهرب من الزراعة والصناعة إلى المضاربة المالية، مما يعمّق الركود الاقتصادي.
درس من الخارج: الرقابة على الذهب
في تنزانيا، لا يُسمح ببيع أو شراء الذهب إلا من خلال تراخيص رسمية تصدرها الدولة، وتخضع جميع المعاملات لتدقيق ورقابة صارمة. هذا النظام يحمي الاقتصاد المحلي من المضاربة ويضمن استفادة الدولة من صادرات الذهب. بالمقارنة، غياب الرقابة في السودان يسمح للمضاربين بالتحكم الكامل في الأسعار وتحويل الذهب من مورد استراتيجي إلى أداة مضاربة مالية، مما يفاقم الانهيار النقدي والمالي.
آثار الانهيار على المواطن
• التضخم المعيشي: السلع المستوردة تتضاعف مع كل قفزة في الدولار. سلعة بـ10 دولارات كانت تكلف 5,600 جنيهاً (2023) وأصبحت اليوم أكثر من 36,000 جنيهاً.
• تآكل القوة الشرائية: دخول المواطنين لم تعد تغطي سوى جزء من الاحتياجات الأساسية.
• الفقر المدقع: أكثر من 80% من الأسر تحت خط الفقر العالمي (2.15 دولار يومياً).
خلاصة: حرب مالية بلا رصاص
ما يجري اليوم هو حرب اقتصادية صامتة. بينما يواجه السودانيون الرصاص في الشوارع، يواجهون في الأسواق رصاص الدولار والذهب.
غياب البنك المركزي، وتراجع دور وزارة المعادن والشركة السودانية للموارد المعدنية في ضبط انتاج والمتاجرة بالذهب، جعل السوق الموازي والمضاربين هم الحاكم الفعلي.
النتيجة: مدخرات تتبخر، أسعار تتضاعف، وقوة شرائية تنهار
لن يتوقف نزيف الاقتصاد بوقف إطلاق النار فقط؛ بل يحتاج السودان إلى:
- إعادة بناء مؤسسات الدولة النقدية والمالية.
- تنظيم صادر الذهب واستغلال عائداته كرافعة اقتصادية.
- وضع سياسات نقدية ومالية شفافة ومتوازنة تعيد الثقة في الجنيه.
وإلا ستظل الحرب الاقتصادية مشتعلة… حتى لو صمت الرصاص.