الجمعة, أكتوبر 3, 2025
الرئيسيةمقالاتزاوية خاصة ...

زاوية خاصة نايلة علي محمد الخليفة الميديا بين هبوط الغناء وتكسب الناشطات… سقوط مزدوج

كانت في إحدى القرى امرأة معروفة بأنها لا تكتم سراً ، فإذا خاصمت زوجها او جارتها كشفت كل ما تعرفه عنهم من أمور خاصة أمام النساء والرجال ، فيضحك الجميع عليها ويقولون عنها “دي البئر المكشوفة… ما بتخلي حاجة مدفونة الليلة” ،
هذه الحكاية القديمة لم تتجاوز حدود الجلسات الضيقة ، أما اليوم فقد صارت الميديا “بئراً مكشوفة” بصورة اوسع وأكبر ، تُلقى فيها الخصومات والشتائم على مرأى ومسمع الآلاف.

قديماً إذا وقع خلاف أو عتاب بين النساء ، كان يظل في نطاق محدود ، تنتقل فيه الملامة عبر وسيطة تزيد أو تنقص في الكلام ، ثم يتدخل أولياء الأمر لوضع حد للنزاع ، فتنتهي القصة في المجلس الأسري ، وكل رجل يلجم وليته ويسكتها ، لم تكن الخصومة تتعدى حدود البيت أو الحي ، وكانت الكلمة موزونة بقدر يحفظ للناس كرامتهم.

أما اليوم فقد كسرت وسائط التواصل كل الحواجز ، فانتقلت الخصومات إلى الفضاء المفتوح ، وأصبحت الميديا مسرحاً واسعاً للتراشق والسباب ، لم يعد الأمر شأناً داخلياً ، بل صار عرضاً يومياً يتابعه الآلاف في بث مباشر ، ويتحول إلى مادة للتداول والتسلية على حساب القيم والأخلاق.

في مقدمة هذا المشهد تقف بعض القونات ، اللواتي ارتبطن بالغناء دون أن يقدمن فناً يُذكر ، مثل عشة الجبل وهبة جبرة ، الاثنتان انخرطتا في موجة من التلاسن على الميديا ، تبادلتا فيها أقبح الألفاظ والعبارات ، في مشهد لا يمت بصلة إلى رسالة الغناء ولا إلى أبسط معايير الأدب.

للأسف بعد أن تطاولت عشة الجبل الجبلية على الفنان محمود عبدالعزيز في احد لايفات الشتم والردود على هبه جبرة ، استشاط أنصار الحوت غضبا وفتحوا بلاغ في مواجهتها والقى القبض عليها في بورسودان وهي تبرز بطاقة عسكرية للقوات المشتركة ، يا للعار اصبحن القونات يمتلكن البطاقات العسكرية للإفلات من العقاب. وما يزيد الطين بلة أن بعضهن يحمل بطاقات عضوية من اتحاد المهن الموسيقية ، ما جعل لديهن مظلة مزدوجة ، بطاقة نقابية لشرعنة الانتهاك الفني وبطاقة عسكرية للإفلات القانوني ، في صورة صارخة لانهيار الضوابط والقيم ، وفتح المجال لانحدار الفن والأخلاق على حد سواء.

المؤسف أن واحدة منهن تحمل بطاقة عضوية من اتحاد المهن الموسيقية ، وكأن الاتحاد شرّع الأبواب لانتهاك شرف المهنة ، التي بناها الكبار بجدهم وموهبتهم.

حين نستحضر رموز الغناء السوداني الكاشف ، عثمان حسين ، سيد خليفة ، إبراهيم عوض ، محمد وردي ، ندرك حجم الهوة ، أولئك جعلوا الغناء رسالة وطنية وإنسانية ، مزجوا الكلمة الرصينة باللحن الرفيع ، وحملوا وجدان السودانيين إلى آفاق راقية ، واليوم نجد أنفسنا أمام أصوات بلا مضمون ، تقايض الفن بالابتذال ، وتعرض الشتم في اللايفات بدلاً من الطرب في المسارح ، إنه سقوط فني يوجع القلب ويستحق أن يُقابل بالحسرة.

إلى جانب القونات ، ظهرت أسماء أخرى مثل “ماما كوكي” و”سماح”. هاتان ليستا فنانتين ولا تنتميان إلى الوسط الفني ، بل ناشطات على الميديا وجدن في اللايفات والتراشق وسيلة للتكسب المادي ، كلما زاد الجدل ارتفع عدد المشاهدين ، وكلما ارتفعت المشاهدات تضاعفت الأرباح ، هكذا تحولت المنصات إلى سوق للمزايدات ، حيث يُباع الكلام الساقط ويُشترى بالمال.

هذا النوع من “النشاط” لا يقدم فناً ولا وعياً ، بل يرسخ الابتذال كوسيلة للربح ، ويؤكد أن الميديا عند بعضهن لم تعد أداة للتنوير وإنما وسيلة للتسويق الرخيص.

وسط هذا المشهد ، يبرز سؤال موجع ، أين مسؤولية الأسر من هذا الابتذال؟ هل خرجت هؤلاء النسوة عن طوع أسرهن ، أم أن هناك صمتاً غير مفهوم تجاه ما يبثنه من محتوى جارح للقيم؟ في مجتمع يقوم على الروابط الأسرية ، كان من الطبيعي أن تضبط الأسرة سلوك أفرادها ، أو على الأقل أن تعلن براءتها من هذا المسلك ، لكن ما نراه هو غياب شبه كامل لهذا الدور ، إن الأسرة التي كانت في الماضي سياجاً للأخلاق ، تبدو اليوم عاجزة عن لجم هذا الانفلات ، وكأنها رفعت يدها تاركة الميديا تبتلع أبناءها وبناتها.

نحن إذن أمام سقوط مزدوج سقوط فني تمثل في هبوط القونات وتورط اتحاد المهن الموسيقية في شرعنته ، وسقوط اجتماعي تجاري ، تمثل في ناشطات الميديا اللواتي اتخذن الشتائم وسيلة للكسب ، وبين الاثنين يتعرض الذوق العام السوداني لتشويه ممنهج ، وتُسحب صورة البلاد الثقافية إلى الأسفل.

المسؤولية هنا لا يمكن أن تُجزأ ، فهي تقع على الاتحاد الذي تخلى عن دوره في حماية المهنة ، وعلى الدولة التي لم تضع ضوابط رادعة ، وعلى الأسر التي غاب صوتها في ضبط السلوك ، وعلى المجتمع الذي يساهم أحياناً في الترويج لهذا الابتذال بالمشاهدة والمتابعة ، الجميع مسؤولون عن هذا الانحدار ، والجميع مدعوون للوقوف في وجهه.

لقد خرج التراشق من المجالس الضيقة إلى الفضاء المفتوح ، لكنه لم يخرج بآداب الكلمة وحدود الاحترام ، الميديا التي يفترض أن تكون أداة للتنوير ، تحولت إلى مسرح للهبوط والسقوط ، وإذا لم نواجه هذا الانحدار بحزم ومسؤولية ، فسنسجل في تاريخنا الثقافي أن زمن الميديا كان هو زمن سقوط الفن والقيم معاً…لنا عودة.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات