السبت, سبتمبر 27, 2025
الرئيسيةمقالاتبين هشاشة الدولة وقتل النفس، مسار الصراع ومسؤولية الإنسان ...

بين هشاشة الدولة وقتل النفس، مسار الصراع ومسؤولية الإنسان د. الهادي عبدالله أبوضفائر

لم تكن الطلقة الأولى التي دوّت في صباح الخامس عشر من أبريل مجرد صوتٍ لآلة الحرب، بل كانت علامة فارقة على مسار طويل من الفشل، وإعلاناً بانهيار كل الجسور التي كان يمكن أن تُبقي السودان في دائرة السياسة لا في أتون السلاح. تلك الطلقة لم تخرج من فوهة بندقية معزولة، بل خرجت من تاريخ ممتد، ومن هشاشة الدولة، ومن عجز النخب، ومن غياب الإجماع الوطني على مشروع جامع. فالسؤال الأعمق ليس. من أطلق الرصاصة الأولى؟ بل. ما الذي جعل إطلاقها ممكنة؟ وما الظروف التي أفرزت هذا الانفجار المأساوي في جسد الوطن؟ ما الذي أوصلنا إلى أن يصبح الحوار بالبنادق أكثر إقناعاً من الحوار بالكلمات؟ ما الذي جعل السودان يقفز دوماً من ثورة إلى حرب، ومن سلام هش إلى هدنة موقتة، كيف ظل هذا البلد، رغم كل الطموحات والآمال، محاصراً بدائرة لا تنتهي من الانفجار والانكسار، عاجزاً عن بناء علاقة صادقة بين الدولة ومواطنيها، وبين المركز والهامش، وبين النخب والشعوب.

الدولة لم تُبن على عقد اجتماعي يوازن بين تنوعها واتساعها، بل ولِدت وهي تحمل في أحشائها بذور التشظي والانقسام. لم يُطرح سؤال جوهري عن الهوية والكيان، من نحن؟ وما الشعب الذي نريد أن نحكمه؟ لم تُطرح الإجابة بصدق جماعي، بل أُدير الوطن بمنطق الغلبة والسيطرة، لا بمنطق الشراكة والوفاق. ومن هنا جاءت الحروب، ليست مجرد أحداث عابرة، بل انعكاسا لفشل الدولة في التأسيس لمشروع وطني جامع. حرب الجنوب قبل الانفصال كانت الدليل المبكر على هذا الفشل، وحرب دارفور تجسيداً لانفجار المظالم المتراكمة، بينما صراعات جبال النوبة والنيل الأزرق والشرق أكدت أن النزيف لم يكن طارئاً، بل بنية كامنة في جسد السودان، تنتظر لحظة لتنفجر، لتكشف هشاشة الدولة وعجزها عن حماية مواطنيها وضمان العدالة بين أبنائها.

كلما جاء اتفاق سلام جاء هشاً، ناقصاً، أقرب إلى صفقة سياسية منه إلى مصالحة وطنية. نيفاشا أنهت أطول حرب أهلية في إفريقيا، لكنها لم تجب على سؤال الهوية والوطن، وانتهى كل شيء بالانفصال وبقاء الأزمة على حالها. سلام جوبا أدخل الحركات المسلحة إلى الخرطوم ونقلها إلى قلب السلطة، لكنه لم يُدخل السلام إلى معسكرات النزوح، حيث بقي الألم والحرمان شاهدان على غياب العدالة والمواطنة. صار التمثيل السياسي مجرد طقوس رمزية، بينما الملايين ينتظرون الاعتراف بحقهم في العيش الكريم والطمأنينة. السلام ظل بعيداً عن المخيمات وضمير الوطن، وكأن صخب السياسة لا يمت لحياة الناس الحقيقية بصلة، وظل الريف مهمشاً والعدالة غائبة. حتى اتفاقيات دارفور لم تفعل أكثر من إعادة توزيع المناصب، تاركة الجرح ينزف، ليبقى السلام في السودان سلاماً للنخب، لا للشعوب.

وفي قلب هذه المأساة، بقي السلاح سيد الموقف، لم يعد أداةً استثنائية للدفاع عن الوطن، بل صار وسيلة لإنتاج السياسة نفسها. فمنذ أن بدأ الساسة يتدخلون في المؤسسة العسكرية بانقلاب عبود عام 1958، تلاشى الخط الفاصل بين القوة العسكرية والقرار السياسي، وتحولت البنادق تدريجياً إلى امتداد لإرادة الساسة، لتصبح لغة الرصاص هي الوسيلة المتكررة لحسم الخلافات، بدل أن تكون آخر ملاذ للدفاع عن الوطن. ومع ظهور المليشيات في دارفور وتضخمها حتى صارت قوة تنافس الدولة، تحوّل السلاح إلى بطاقة عبور إلى المائدة السياسية. وهكذا، لم يعد السلاح غريباً عن السياسة، بل صار السياسة ذاتها، مرآة لقرارات الساسة وانحيازاتهم، وتجسيداً لعجزهم عن بناء دولة تحمي مواطنيها وتضع القانون فوق الجميع.

النخب المدنية لم تكن بديلاً ناجعاً، فقد أخفقت في إدارة لحظات التحول الكبرى. بعد ثورتي أكتوبر وأبريل، أضاع السياسيون الفرص، وانشغلوا بخلافاتهم الضيقة بدل أن يؤسسوا لمشروع وطني. وحتى ثورة ديسمبر، التي جسدت أوسع مشاركة شعبية في تاريخ السودان الحديث، انتهت إلى مشهد سياسي مرتبك وعاجز، لم يستطع تحويل لحظة الانتصار الجماهيري إلى مشروع مستدام. حين غاب المشروع، بقيت البنادق حاضرة لتملأ الفراغ. بهذا المعنى، الطلقة الأولى لم تكن بداية الحرب، بل كانت نتيجتها الحتمية. كانت الخلاصة الطبيعية لمسار طويل من الفشل السياسي. الخرطوم لم تكن سوى محطة متأخرة لانفجار بدأ في الأطراف، وتمدّد شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى قلب الدولة.

إن المأساة ليست في أن طلقة خرجت، بل في أن السياسة لم تجد ما تقوله قبل أن تُضطر البنادق إلى الكلام. ما غاب لم يكن فقط الموقف الوطني من السلاح، بل الموقف الوطني من السلام ذاته. أن يُنظر إليه كقيمة عليا، لا كصفقة ظرفية، أن يُترجم إلى عدالة ومساواة، لا إلى مقاعد ومناصب. فالوطن الذي لا يعرف معنى العدالة لن يعرف طعم السلام، والوطن الذي يعتاد لغة الرصاص لن يجيد الإصغاء للكلمة.

يكمن الحل الأمثل في العودة إلى الجذور، إلى السؤال الجوهرِي الذي طالما ترددنا في مواجهته بصدق. ما هو الوطن الذي نريد أن نحكمه؟ وما شكل العدالة التي تحفظ الكرامة لكل مواطن؟ الحلول السطحية والاتفاقات المؤقتة عاجزة عن كسر دائرة المأساة، ما لم نمتلك وعياً صادقاً وإرادة حقيقية لإعادة بناء وطن جامع. لا يكفي وقف الحرب ببنود أمنية، بل يجب إعادة تعريف الدولة على أسس العدالة والمواطنة المتساوية، وإعادة بناء الجيش بعقيدة وطنية واحدة، فلا سلاح خارج المؤسسة الرسمية. كما يجب إقامة عدالة انتقالية حقيقية تكرم الضحايا وتفتح باب المصالحة، لا التسويات الهشة. ويستدعي الأمر إصلاحاً اقتصادياً يردم الهوة بين المركز والهامش ويخرج الشباب من فخ البطالة واليأس، إلى جانب إصلاح التعليم والثقافة لبناء وعي جديد يرى أن السلام ليس مجرد هدنة، وأن السياسة ليست صراع غنائم، بل فن إدارة التنوع وصناعة المستقبل.

فالطلقة الأولى لم تكن مجرد فعل عابر، بل كانت إعلاناً صريحاً عن غياب الدولة، عن الفراغ الذي تركه ضعف المؤسسات وسوء إدارة الساسة، وعن هشاشة الوطن أمام تراكمات الظلم والانكسار. أما السلام الحقيقي، فلا ينبغي أن يكون مجرد هدنة مؤقتة، بل إعلاناً عن ميلاد الدولة من جديد، عن قدرتنا على الاعتراف بأخطائنا، وعلى مواجهة ماضينا بشجاعة، وإعادة البناء على أسس قائمة على العدالة والمواطنة والمشاركة الفعلية. السودان إما أن يُبنى على العدالة فيصمد، ويصبح الوطن جامعاً لكل أبنائه، أو يستمر في دورة المأساة، يعيد إنتاجها برصاص جديد، ويمضي في دوامة لا تنتهي من الانفجار والانكسار، دون أن يلمس طموحاته في الوحدة والاستقرار.
‏abudafair@hotmail.com

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات