خطاب الدكتور كامل إدريس في الأمم المتحدة لم يكن مجرد بيان عابر في محفل دولي مزدحم بالتصريحات بل كان إعلاناً واضحاً أن السودان غادر مربع الوصاية ودخل زمن الفعل وصار صوته حاضراً بقوة بين الأمم وهو خطاب يفتح صفحة جديدة في علاقاتنا الخارجية ويؤكد أن القرار الوطني لم يعد يُصنع في الخارج بل بات ملكاً للسودانيين.
أول ما يلفت النظر أن إدريس أسقط صراحة كل مشروعات الحلول الجزئية التي تطرحها القوى الأجنبية حين أشاد بخارطة الطريق السودانية التي وُلدت من رحم التجربة والمعاناة ليؤكد أن الحل لن يكون إلا بيد السودانيين وحدهم وهنا يكمن جوهر السيادة الوطنية التي طالما ناضل من أجلها شعبنا.
أما داخلياً فقد جاء الخطاب ليضع أسس معادلة جديدة بين السياسة والميدان فهو يقر بانتصارات الجيش الذي حرر الأرض ولكنه يضيف أن الشرعية لن تكتمل إلا ببناء الدولة عبر حكومة مدنية وانتخابات قادمة بهذا المعنى تتكامل الأدوار الجيش يحمي والسياسة تبني والنتيجة معركة سيادة شاملة توحد الوطن خلف مشروع واحد.
الرسالة الأقوى كانت للمليشيا ومن يقف وراءها إذ ربط إدريس السلام بانسحابها من المدن ورفع حصار الفاشر وبذلك انتقل بها من موقع الطرف إلى خانة الجماعة الإرهابية التي يجب اجتثاثها هذا التحول في الخطاب يعيد صياغة صورتها أمام العالم ويمهد لعزلها دولياً وإقليمياً.
إن خطاب إدريس يمكن قراءته كجزء من استراتيجية إغلاق الملفات الجيش يغلقها عسكرياً في كردفان والسياسة تغلقها دبلوماسياً في نيويورك والسودان يخطو بثقة نحو فرض واقع جديد يقوم على ثلاث ركائز واضحة الجيش حامي السيادة المليشيا إرهاب والسلام صناعة وطنية لا تُفرض من الخارج.
لقد فتح خطاب إدريس باباً لدبلوماسية الكرامة في مقابل دبلوماسية التبعية وأرسل إلى الداخل والخارج رسالة واحدة أن السودان لم يعد متسولاً للحلول بل صار صانعاً لقراره وأن زمن الانكسار قد ولى وأن عهد السيادة قد بدأ.
وإذا كان صوت إدريس قد دوى من على منبر الأمم المتحدة فإن أصوات الجنود والمرابطين في الخنادق هي التي منحت خطابه معناه الحقيقي فهم الذين حرروا الأرض بدمائهم ليتحدث السياسيون باسم وطن معافى وهم الذين كتبوا بعرقهم وتضحياتهم صفحة المجد التي نعيشها اليوم إن خطاب نيويورك لم يكن سوى صدى لأصواتهم العالية بأن السودان باقٍ عزيزاً حراً.