saeed.abuobida5@gmail.com
الذهب في قلب الاقتصاد السوداني
منذ تراجع صادرات النفط والمنتجات الزراعية، أصبح الذهب المورد الأول للنقد الأجنبي في السودان. ففي الربع الأول من عام 2025 بلغت قيمة الصادرات السودانية 704.1 مليون دولار أمريكي، استحوذ الذهب وحده على 449.5 مليون دولار، أي ما يعادل 63.8% من إجمالي الصادرات. بينما لم تتجاوز صادرات السلع الأخرى مثل الحيوانات الحية والسمسم والصمغ العربي 254.6 مليون دولار.
لكن في المقابل، بلغت قيمة الواردات 1.312 مليار دولار، مما أفرز فجوة تجارية تتجاوز 608 مليون دولار. والأسوأ أن 88% من صادرات الذهب كانت متجهة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، التي أوقفت مؤخراً وارداتها من السودان، الأمر الذي وضع الخرطوم أمام تحدٍ كبير في إيجاد أسواق بديلة.
قرار احتكار التصدير عبر بنك السودان: جدل واسع
توجيه رئيس مجلس الوزراء د كامل أدريس أن يكون تصدير الذهب حكراً على بنك السودان المركزي. ظاهرياً يبدو القرار وسيلة للسيطرة على حصائل الصادرات وضمان دخول النقد الأجنبي عبر القنوات الرسمية. لكن عملياً تبرز عدة مخاطر:
1 . غياب المرونة التجارية: البنك المركزي مؤسسة نقدية، وليست جهة تجارية معتادة على التفاوض مع المشترين العالميين أو التكيف مع تغيرات السوق.
2 . زيادة التهريب: ذلك إذا لم يحصل المنتجون والتجار على أسعار مجزية عبر القنوات الرسمية، سيجدون في التهريب منفذاً لتعظيم أرباحهم، خاصة مع حدود السودان المفتوحة مع عدة دول.
3 . فقدان الثقة الاستثمارية: احتكار التصدير يقلل من رغبة الشركات المحلية والأجنبية في الاستثمار في قطاع التعدين.
دروس من تجارب الدول الإفريقية*
• غانا: أنشأت هيئة متخصصة لتنظيم التعدين والتصدير، مع السماح لشركات متعددة بالبيع للأسواق العالمية تحت رقابة صارمة، فنجحت في جذب الاستثمارات وتقليل التهريب.
• إثيوبيا: جربت احتكار التصدير عبر البنك المركزي، لكن النتيجة كانت تراجع الإنتاج وزيادة التهريب، ما أجبرها لاحقاً على فتح المجال لشركات مرخصة.
• تنزانيا: أنشأت بورصة محلية للذهب والمعادن النفيسة، وفرت الشفافية في التسعير وربطت المنتجين مباشرة بالمشترين العالميين.
هذه النماذج تثبت أن الاحتكار لا ينجح غالباً، وأن الحل يكمن في التنظيم والشفافية لا في الإقصاء.
هل الاحتكار يشجع التهريب؟
الإجابة الأقرب للواقع هي نعم. التهريب ليس جديداً في السودان، بل ظل لعقود يمثل مخرجاً مغرياً للمنتجين بسبب ضعف الأسعار الرسمية والقيود المشددة. وكلما زاد الفارق بين السعر العالمي والسعر المحلي، كلما ازدهرت شبكات التهريب عبر الحدود.
ما هي الخيارات الأفضل أمام السودان؟
لتفادي المخاطر وتعظيم الاستفادة من الذهب، يحتاج السودان إلى مسار أكثر مرونة وشفافية:
1 . تحرير التصدير تحت إشراف الدولة: فتح الباب لشركات مرخصة للتصدير مع إلزامها بتوريد حصائل الصادرات عبر البنوك.
2 . تفعيل بورصة السودان للذهب: والتي تم إنشاؤها مؤخرا لضمان شفافية التسعير، وزيادة تنافسية الصادرات، وربط السوق المحلية بالأسواق العالمية.
3 . تنويع الأسواق: التوجه نحو الهند وتركيا والصين وبعض الأسواق الأوروبية بدلاً من الاعتماد على الإمارات فقط.
4 . تحفيز المنتجين المحليين: عبر أسعار عادلة، وإعفاءات ضريبية مدروسة، وتوفير خدمات النقل والتخزين والتأمين.
5 . تعزيز الرقابة على الحدود: مع إصلاح جذري في السياسات النقدية التي تخلق فجوات سعرية بين السوق الرسمي والموازي.
خاتمة
الذهب هو عصب الاقتصاد السوداني حالياً، لكنه سيف ذو حدين: يمكن أن يكون رافعة للاقتصاد إذا تم تصديره بشفافية ومرونة، أو أن يتحول إلى باب واسع للتهريب إذا احتُكر عبر جهة واحدة لا تملك الخبرة التجارية. تجارب إفريقيا أثبتت أن الانفتاح المنظم، لا الاحتكار، هو الطريق الأمثل. وبالنسبة للسودان، فإن تفعيل بورصة للذهب، وتنويع الأسواق، وإشراك القطاع الخاص، تبقى الخيارات الأكثر جدوى لحماية الاقتصاد ومنع نزيف التهريب.