الإثنين, سبتمبر 1, 2025
الرئيسيةمقالاتوجه الحقيقة ...

وجه الحقيقة كوالالمبور وهندسة المشهد السوداني..! بقلم/إبراهيم شقلاوي

علي مدى ثلاثة أيام انعقد في العاصمة الماليزية كوالالمبور بين 26 و28 أغسطس 2025، ورشة تشاورية بدعوة من منظمة “بروميدييشن” الفرنسية وبتنسيق مع السلطات الماليزية، مثّل هذا الانعقاد محاولة جديدة لفتح هامش سياسي في المشهد السوداني الذي يكاد يكون مغلقًا.

اجتمعت هذه القوى السياسية السودانية في مسعى لإحياء مشروع وطني أرهقه الانقسام وعمقته الحرب، وذلك لبحث مقاربة بديلة تعيد رسم خطوط الأزمة على أسس سياسية، بعيدًا عن منطق الصراعات الصفرية.

البيان الختامي الذي تم تداوله علي نطاق واسع عكس في مضمونه توجها واضحًا نحو إعادة تعريف الأزمة السودانية، بوصفها تمردًا مسلحًا على الدولة ومؤسساتها، وهو ما اتضح منذ الأسطر الأولى التي ابتدأت بتحية وتثمين لتضحيات القوات المسلحة والقوات النظامية والمستنفرين، مع التأكيد الصريح على شرعية الدولة ووحدتها وسيادتها.

هذا التوصيف الدقيق الذي يعتبر موقف سياسي و أخلاقي و تضامني، مع السودانيين في محنة الحرب، جاء في سياق محاولة إعادة ترسيم الموقف الوطني على المستوى الدولي، في مواجهة الخطابات التي تسعى لتدويل الأزمة وإعادة تأطيرها خارج سردية الدولة.

أكد البيان على وحدة السودان وسيادته الكاملة، في ظل تصاعد الحديث عن مشاريع التقسيم. وركّز بشكل خاص على مدينة الفاشر، التي وصفها بالنموذج الكارثي للوضع الإنساني، داعيًا المجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته. ووفقًا لما ورد في البيان، فإن ميليشيا الدعم السريع ارتكبت فظائع قد ترقى إلى جرائم حرب، بناءً على تقارير أممية ومستقلة.

ورغم لهجة البيان التي حملت توجيهًا واضحًا للاتهام نحو الدعم السريع، فإنه لم يجنح إلى التصعيد، بل حرص على إبراز التمسك بالحل السياسي، عبر الدعوة إلى ميثاق شرف يضمن حرية التعبير، ويُمهّد لمسار انتقالي دون إقصاء. وهذا يشير إلى إدراك استثنائي بأن الحرب، مهما طال أمدها، لا يمكن أن تفرض حلًا دائمًا، وأن المصالحة السياسية تظل الخيار الأجدى اذا ما اقرته ضوابط قانونية.

من جهة أخرى، لم يكتف البيان بالتشخيص السياسي، بل مضى نحو طرح مسار بديل يدمج بين الحفاظ على مؤسسات الدولة، والتأسيس لتحول سياسي سلمي وآمن. حيث أكد على التمسك بالحل السياسي الشامل، ودعا إلى ميثاق شرف وطني يضمن حرية التعبير، ويفتح الباب أمام تفاهمات سياسية قائمة على نبذ الإقصاء وإعادة بناء الثقة بين القوى الوطنية.

كما أبدى البيان اهتمامًا واضحًا بالأزمة الإنسانية، معتبرًا أنها أولوية وطنية. غير أن هذه الدعوة بقيت في إطار النوايا، دون توضيح آليات التنفيذ أو الجهات المسؤولة عن تحقيقها. وهذا يعكس فجوة مألوفة في الخطاب السياسي السوداني بين الطرح النظري والواقع العملي.

البعد الدولي كان حاضرًا في البيان، سواء عبر انتقاد الدعم الإقليمي للتمرد، أو بالدعوة إلى بناء شراكات مع جهات داعمة للموقف الرسمي. وقد حاول البيان الحفاظ على توازن بين رفض تدويل الأزمة، وبين القبول بالحاجة إلى دعم دولي في مجالات الإغاثة وإعادة الإعمار.

اللافت أن البيان أكد على السعي نحو جيش موحد يعمل بمعزل عن التأثيرات السياسية والحزبية، في موقف يعكس توافقًا وطنيًا على مهنية المؤسسة العسكرية. ويأتي هذا في انسجام مع تاريخ الجيش السوداني الذي ظل بطبعه بعيدًا عن السياسة، حيث كانت تدخلاته في الحكم تتم عادةً عبر استدعاء من القوى السياسية، لا بمبادرة منه.

وقع على البيان كل من: المؤتمر الوطني بقيادة ابراهيم محمود ، حركة الإصلاح الآن، الحركة الوطنية للبناء والتنمية، حزب بناة السودان، وحزب قوى الإصلاح والتغيير القومي. وهي تشكيلات تمثل طيفًا متنوعًا داخل التيار الإسلامي، إلى جانب قوى محافظة وتنظيمات وطنية حديثة، ما يمنح الوثيقة قدرًا من التعدد، وإن ظلت بعيدة عن تمثيل شامل للقوى السياسية والمجتمعية في السودان.

الملاحظ أن سبق هذا اللقاء دعوة مماثلة من ذات المنظمة في أبريل 2025 إلى لقاء تشاوري في الدوحة تم تأجيله، أعلن عن حضوره ذات الموقعين ، بينما قاطعته أطراف أخرى. فبينما شارك تيار المؤتمر الوطني بقيادة إبراهيم محمود، رفضت قيادة الحزب برئاسة أحمد هارون، معتبرة أن أي حوار قبل نهاية الحرب واستعادة السيادة الكاملة يعد اعترافًا ضمنيًا بشرعية واقع تصنعه المليشيات وسندها الخارجي.

ومع ذلك، فإن ما رشح من مواقف الطرفين لا يكشف عن خلاف جوهري في التوجهات السياسية، بل عن تباين في التقديرات والتوقيت والأولويات.

ويطرح بيان كوالالمبور تساؤلًا مهمًا: هل يمكن أن يشكّل أرضية لتقارب جناحي المؤتمر الوطني، أو حتى فرصة لتوحيد التيارات الإسلامية المنقسمة منذ سقوط حكم الرئيس البشير في 2019؟ وهل يمهّد لمبادرة أوسع لتوحيد الصفوف في مواجهة التحديات الوطنية الماثلة؟

أما “بروميدييشن”، فهي منظمة فرنسية تنشط في الوساطة في مناطق النزاع بالقارة الإفريقية، وقد شاركت في تنظيم لقاءات سابقة مرتبطة بالشأن السوداني، سواء في جنيف أو القاهرة. ورغم أنها تطرح نفسها كجهة محايدة، فإن بعض الأصوات السودانية تنظر إليها كأداة لإعادة تموضع فرنسي – أوروبي في السودان تحت غطاء الحوار والدعم المدني.

بالنظر إلى #وجه_الحقيقة ، ورغم التحفظات حول محدودية التمثيل وسياق الانعقاد الخارجي، يُعد بيان كوالالمبور مؤشراً سياسياً يستحق التوقف عنده . فهو يعكس عودة ممكنة للسياسة كأداة للتسوية، ويمنح بعض الفاعلين هامشاً لإعادة التموضع. غير أن جدواه تظل مرهونة بقدرته على التحول من رمزية البيان إلى فاعلية المشروع، عبر تجاوز الانقسامات، وتأسيس مسار وطني جاد يواكب تعقيدات اللحظة، ويرتقي لمستوى التحدي الذي يواجه البلاد.
دمتم بخير وعافية.
الإثنين 1 سبتمبر 2025 م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات