الإثنين, سبتمبر 1, 2025
الرئيسيةمقالاتالتكايا في الخرطوم: من قوة شرائية مؤقتة إلى محرك إنتاجي مستدام ...

التكايا في الخرطوم: من قوة شرائية مؤقتة إلى محرك إنتاجي مستدام بقلم: أبوعبيده أحمد سعيد محمد – عنيزة


المقدمة
التكايا في السودان ليست مجرد مطابخ للفقراء، بل هي مؤسسات اجتماعية واقتصادية تحمل إرثًا روحانيًا وثقافيًا عميقًا. خلال الحرب، أنقذت التكايا المجتمع من الانهيار الإنساني ووفرت الغذاء والمأوى لمئات الآلاف. لكنها، بعد انتهاء الحرب، تواجه تحديًا جديدًا: كيف يمكن تحويل قوتها الشرائية المستمرة من التبرعات إلى إنتاج حقيقي وفرص عمل مستدامة للشباب؟هذا التحول ليس مجرد خيار اجتماعي، بل ضرورة اقتصادية لإعادة إعمار الخرطوم وتنشيط الاقتصاد المحلي بطريقة مستدامة.
تمهيد: معنى التكية وأصلها
كلمة “التكية” تعني أصلاً المكان الذي يتكئ عليه الإنسان ويعتمد عليه في مأكله ومعيشته. وقد عُرفت التكايا منذ العصور المملوكية والعثمانية كمؤسسات صوفية ودينية تقدم المأوى والطعام للفقراء والمتصوفة وعابري السبيل وطلاب العلم. ولم تكن مجرد مطابخ للفقراء، بل امتدت أدوارها لتشمل الدين والمجتمع والثقافة والصحة، من خلال تنظيم حلقات الذكر، تقديم التعليم، وأحيانًا الرعاية الطبية.
انتشرت التكايا في مدن مثل دمشق والقاهرة، وكان لها حضور بارز في مكة والمدينة عبر ما أسسه محمد علي باشا لخدمة الحجاج والمعتمرين. ومع مرور الزمن، أصبحت رمزاً للتكافل الاجتماعي والشبكات المجتمعية المنظمة، وارتبطت في ذاكرة المجتمعات بالدعم المستمر للفقراء والمحتاجين.
التكايا بين الإرث الروحي والدور الاقتصادي
في السودان، ارتبطت التكايا بالمسيد والطرق الصوفية، حيث لم تكن مجرد أماكن للذكر والعبادة، بل أيضًا فضاءات للكرم وإطعام المساكين وإيواء العابرين. فهي مؤسسة اجتماعية واقتصادية عريقة، جمعت بين البعد الروحي والخدمة العامة، ورسّخت قيم التكافل التي ميّزت المجتمع السوداني عبر القرون. وانتشرت في المدن الكبرى والقرى، ملتصقة بالمساجد والزوايا الصوفية، لتصبح جزءًا من النسيج الاجتماعي والديني الذي يمكّن المجتمع من الصمود أمام الأزمات.
التكايا إذن لم تكن فقط مكاناً لتقديم الغذاء، بل خلقت قوة شرائية في
الأسواق المحلية من خلال الإنفاق على شراء المواد الغذائية والخدمات، مما ساهم جزئياً في تنشيط الاقتصاد المحلي حتى في ظل ظروف الحرب.
1- التكايا كملاذ اجتماعي في زمن الحرب
خلال الحرب، كانت التكايا في الخرطوم صمام أمان اجتماعي، حيث وفرت الغذاء والمأوى لمئات الآلاف من النازحين والفقراء. وبالنظر إلى أن عدد سكان ولاية الخرطوم يقارب 8 ملايين نسمة، تشير التقديرات إلى أن ما بين 5% إلى 10% منهم – أي نحو 400 إلى 800 ألف شخص – اعتمدوا مباشرة على التكايا.
هذا الدور الإيجابي حال دون وقوع مجاعة واسعة أو انفجار اجتماعي، وأسهم أيضاً في دعم الاقتصاد المحلي بشكل محدود من خلال شراء التكايا للمواد الغذائية من الأسواق المحلية. فالتكايا خلال الحرب لم تكن مجرد مطبخ، بل محركاً جزئياً للقوة الشرائية ودعماً للأنشطة التجارية المحلية.
2- التحدي بعد التحرير: من الإيجابية إلى السلبية
مع انتهاء الحرب، تتغير المعادلة الاقتصادية والاجتماعية. فالتكية التي كانت إنقاذية، قد تتحول إلى عنصر سلبي إذا ظلت تقتصر على توزيع الوجبات المجانية. استمرار اعتماد 400–800 ألف شخص على الطعام المجاني يعني:
• بقاء عشرات الآلاف من الشباب خارج دورة الإنتاج.
• تكريس “اقتصاد الإعالة” بدلاً من “اقتصاد العمل”.
• استنزاف موارد التبرعات في الاستهلاك بدلاً من توجيهها لمشاريع إنتاجية تنموية.
من الناحية الاقتصادية، تُصرف التكايا يوميًا مبالغ كبيرة من التبرعات على الدعم الغذائي. إذا افترضنا أن متوسط الصرف اليومي يبلغ 500 ألف جنيه سوداني، فإن الصرف السنوي يصل إلى نحو 182.5 مليون جنيه. هذه الأموال بلا شك توفر قوة شرائية حقيقية في الأسواق المحلية، لكنها تظل استهلاكية وغير مرتبطة بإنتاج مستدام.
هنا يظهر البُعد التحليلي الاقتصادي: ما تم إنفاقه على الاستهلاك اليومي كان يمكن توجيهه نحو مشاريع إنتاجية واستثمارية توفر عوائد مستدامة. على سبيل المثال، لو تم استخدام هذه الموارد في:
إعادة إعمار أحياء الخرطوم: تشييد المباني وصيانة المرافق الأساسية.
تشغيل الشباب في
مشاريع إنتاجية :مثل ورش البناء، المخابز، ورش الخياطة أو زراعة الخضروات والفواكه.
فالتحويل من الاستهلاك إلى الإنتاج سيحقق فوائد مزدوجة:

  1. تحويل القوة الشرائية إلى إنتاج حقيقي يعزز الاقتصاد المحلي.
  2. خلق فرص عمل مستدامة للشباب، وبالتالي تقليل الاعتماد على الإعانات.
  3. دعم حركة السوق المحلية بطريقة منتجة ومستدامة، بدل الاقتصار على الاستهلاك المؤقت.
    باختصار، ما كان إيجابياً وضرورياً أثناء الحرب يمكن أن يصبح معيقاً للنمو الاقتصادي بعد التحرير إذا لم يتم توجيه الموارد بشكل استراتيجي نحو الإنتاج.
    3- الأمن أولاً، ثم التشغيل والإنتاج
    لضمان أن تظل التكايا شريكاً إيجابياً في إعادة الإعمار، يجب اتباع خطوات متسلسلة:
  4. فرض الأمن والاستقرار : عودة الناس إلى بيوتهم وأماكن عملهم مرهون بوقف الفوضى وتأمين الأحياء، وهو شرط أساسي لأي نشاط اقتصادي.
  5. توفير بيئة صحية ونظيفة: إزالة الركام، تنظيف الشوارع، ومكافحة الحشرات والأوبئة.
    3. تشغيل الشباب مقابل الغذاء أو الأجر: إشراكهم في أعمال عاجلة مثل النظافة، إصلاح المرافق، ومكافحة المخاطر الصحية.
  6. تحويل موارد التكايا لمشروعات إنتاجية: إنشاء مخابز، ورش غذائية، زراعة خضروات، أو تصنيع منتجات محلية، بما يحوّل التكايا من مؤسسة استهلاكية إلى محرك تنموي مستدام.
    دور الدولة هنا محوري: توفير الأمن والماء والكهرباء يمثل الركيزة الأساسية لنجاح أي نشاط إنتاجي. الأمن يضمن استقرار الأحياء والأسواق، بينما الماء والكهرباء يدعمان المصانع والمزارع والخدمات، ما يجعل تشغيل الشباب وإطلاق مشاريع التكايا الإنتاجية ممكناً وفعّالاً.
    4- الخلاصة
    أثناء الحرب: التكايا كانت ضرورة إنسانية وأنقذت المجتمع من الانهيار.
    بعد التحرير: استمرار التكايا بنفس النهج قد يجعلها عاملاً سلبياً يعرقل القوى العاملة ويكرس ثقافة الاستهلاك.
    الحل الاقتصادي والاجتماعي: ربط التكايا بالأمن أولاً، ثم إدماجها في استراتيجية تشغيل وإنتاج، مدعومة بدور الدولة في توفير الأمن والماء والكهرباء، لتصبح التكايا شريكاً فعالاً في إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية وليس مجرد مطبخ لإعالة طويلة الأمد. saeed.abuobida5@gmail.com
مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات