واحدة من أكبر إشكاليات السياسة في السودان، و أحدثت فراغات فكرية بسبب قلة الاجتهاد و عدم ممارسة النقد على أسس علمية، أن النخب الأيديولوجية و خاصة اليسارية ” القومية و الماركسية” التي تأثرت بالفضاء العربي السياسي.. و بالتحديد في فترة دراستهم، خاصة أولئك الذين ذهبوا للدراسة في مصر و العراق و سوريا و لبنان في عقد الاربعينيات و حتى الثمانينيات مارسوا السياسية من خلال الأحزاب المصرية الأيديولوجية ” القومية و الشيوعية” و في كل من العراق و سوريا في حزب البعث قد جعلوا الشعار بديلا للإنتاج الفكري… رغم أن الفكر هو أداة التغيير.. لآن المفكر يغوص في دراسة المشكل حتى يصل عمقه، ثم يقدم أفكارا للحل تتناسب مع المجتمع و درجة الوعي فيه، و بالضرورة الأفكار سوف تخلق حوارا مجتمعيا يحدث تغييرا يفكك المسلمات التي تعيق عملية التغيير..
و إذا نظرنا إلي التاريخ التأسيسي لحركة الأخوان المسلمين السودانية، نجد أن قيادات التأسيس التي تأثرت بحركة الأخوان المسلمين في مصر، هي نفسها قد أخذت طريقا مغايرا لطريق جبهة الميثاق التي جاء على رأسها الدكتور حسن عبد الله الترابي في عقد السبعينات… هؤلاء أيضا تأثروا في البداية بالشعارات دون الفكر، و ظهر بصورة واضحة بعد انقلاب الجبهة الإسلامية حيث ملأت الفضاء العام بشعارات ضد الكل الذين يختلفون معهم في الرأي، و حتى الدول الخارجية أطالتها.. مما أثر على النظام سلبيا خاصة في علاقته الخارجية.. و نجد أن تقليص مساحة الحريات التي مارستها الإنقاذ لم تمنع فقط القوى السياسية الأخرى عن الفعل السياسي و التعبير، بل انعكست داخل النظام نفسه، حيث بدأ يظهر الصراع الداخلي الأمر الذي أدى في النهاية إلي المفاصلة في 1999م..
هذا الصراع قد بين للعديد من النخب الإسلامية، أن الحركة جاءت إلي السلطة، و هي لا تملك رؤية سياسية مفصلة لكي تحدث بها تغييرا و نهضة في المجتمع.. أنما هي شعارات منثورة في الفضاء العام، و لا تخلق جدلا فكريا لكي يحدث وعيا سياسيا جديدا ينقل الحركة من حركة معارضة و نقد للتيارات الأخرى إلي حزب دولة مناط به عملية التغيير و البناء.. و هذا ما أشار إليه الدكتور الترابي في اللقاءات مع أحمد منصور ” قناة الجزيرة” لذلك بدأ يظهر تيارا نقديا من نخب إسلامية قد غادرت أسوار التنظيم، و بدأت تقدم اجتهادات فكرية بهدف أن تخلق للحركة واقعا جديدا مغايرا منهم الدكتور الطيب زين العابدين و الدكتور عبد الوهاب الأفندي و الدكتور التجاني عبد القادر و الدكتور خالد التجاني و الدكتور المحبوب عبد السلام و الدكتور محمد محجوب هارون، و الدكتور محمد المجذوب محمد صالح و فتح العليم عبد الحي و غيرهم… هؤلاء وصلوا إلي قناعة أن الشعارات تعكس حالة التيبس الفكري في الحركة، و بالتالي لابد من خلق واقعا جديدا من خلال نقد التجربة على أسس علمية لكي تحدث واقعا جديدا..
ثورة ديسمبر 2018م خلقت واقعا جديدا في الفعل الثوري، الأحزاب لم تلتفت إليه و تحاول دراسته بشكل عقلاني.. لكي تتعرف على المتغيرات في المجتمع.. من قبل كانت الجامعات تمثل حركة الوعي و الفعل السياسي الثوري في المجتمع، حيث ظهر من خلال ثورة أكتوبر 1964 في ندوة الترابي بجامعة الخرطوم.. و في إبريل 1985 عندما احتضنت الجامعة نفسها التجمع النقابي و كان لنقابة اساتذة جامعة الخرطوم دورا كبيرا فيها مع بقية الاتحادات و النقابات الأخرى.. و لكن في ثورة ديسمبر 2018 بدأت الثورة من الأحياء في النيل الأزرق ثم عطبرة .. هذه تؤكد أن ثقل الوعي انتقل من الجامعات إلي الشارع بكل مناطقه في العاصمة و حتى الأقاليم، لآن الخريجيين أصبحوا أكثر عددية في الشارع من الجامعات، و كان لابد للثورة أن تنطلق من الشارع.. و بدأت الأحزاب تظهر في يناير 2019 بعد شهر من الثورة، بعد ما قدم تجمع المهنيين مشروع ” إعلان الحرية و التغيير” و بالتالي أصبح الشارع هو سيد الموقف في التحولات السياسية و التغيير.. و عليه يصبح الشارع هو الذي يستطيع أن يخلق المعادلات السياسية و يؤثر فيها سلبا أو إجابا…
في صراع الوثيقة الدستورية بين المكون العسكري و القوى السياسية ناصر الشارع القوى السياسية عندما خرج في 30 يونيو 2019م، و بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م ابتعد عن قوى الحرية و التغيير ” قحاته باعوا الدم” و طالب المكون العسكري بالرجوع للقوى السياسية دون “قحت” و عندما اندلعت الحرب وقف مع الجيش ضد الميليشيا و ظل مؤيدا للجيش… القوى السياسية ممثلة في ” قحت و اليسار الماركسي و القومي” و الذين في معيتهم شل تفكيرهم، و عجزوا أ، يقدموا رؤى مخالفة لذلك أكتفوا بشعار ” لا للحرب” ما هي الرؤية للوصول لتحقيق هذا الشعار، لا أحد عنده فكرة.. طيب لماذا؟ لآن هؤلاء نخب قدراتها متواضعة، و لا تنتج أفكارا حدودها صناعة الشعار لكي تبدأ الهتاف فقط…!
أحزاب اليسار أصبحت خالية من العناصر التي تنتج أفكارا، و بالتالي هي لا تملك رؤى تستطيع بها أن تقنع الآخرين.. الحزب الشيوعي متمسك بدكتاتورية البوليتاريا رغم التطور التكنولوجي الذي جعل المصانع و المزارع تستغنى عن العمال و تستبدلهم بالربورتات.. هل هم منتظرين أن تثور هذه الربورتات ضد مالكي وسائل الانتاج؟ أم ينتجوا فكرا يبينوا فيه أدوات الصراع الجديدة.. و القوميين بعد سقوط النظامين في العراق و سوريا سوف تغيب شمسهم بعد قليل.. أما الأخرين ” قحت المركزي و تقدم و افرازاتها” اكتشفوا أن الطريق الوحيد للسلطة هو التعلق بأهداب الخارج لكي يشكل لهم رافعة للسلطة، و سوف يطول انتظارهم.. مستقبل السودان و استقراره يتأتى بالإنتهاء من السلاح خارج مؤسسة القوات المسلحة، و تغييب الفكر التأمري.. و القضاء على الميليشيا سوف يخلق واقعا سياسيا جديدا يتماشى مع حركة التغيير في المجتمع، و ربما تظهر أحزابا جديدة تتلاءم مع المتغيرات.. و بالتالي تصبح الأفكار تنتج من المجتمع لكي تحدث تغييرا يتوافق مع المتطلبات الجديدة لعملية النهضة في المجتمع… نسأل الله حسن البصيرة..