الإثنين, أغسطس 11, 2025
الرئيسيةمقالاتشيخ الحي وساحر الشاشة بقلم: المهندس عبدالجليل حاكم

شيخ الحي وساحر الشاشة بقلم: المهندس عبدالجليل حاكم

في أرواح الناس وذاكرة الأمكنة، يظلّ عبدالخير حامد عنوانًا كبيرًا للبساطة والنبل والحكمة.
رجلٌ من الزمن النظيف، حمل روحه على كتفه، ومضى من الكيلي إلى الروصيرص، مرورًا بجبال الأنقسنا، حيث تنقّل بين السفوح والوديان، ينحت في قلبه ذاكرة لأمكنة نادرة وسيرة تتخللها الحكمة والمواقف الخالدة.
تربى عبدالخير في حوش المملكة الكبير، وتحديدًا تحت كنف المك نايل حمدان بشير، المكّ الوقور الذي جمعت فيه خصال الحكم الرشيد والحنان الأبوي.
وبعد وفاة المك في مطلع الخمسينيات، شعر عبدالخير بأن جزءًا من قلبه قد غاب، فقرر أن يواصل طريقه بعيدًا عن الحوش، نحو حياة أخرى تموج بالتجربة.
قضى في جبال الأنقسنا نحو عشر سنوات، قبل أن يستقر به المطاف في مدينة الروصيرص، تلك التي كانت جوهرة النيل الأزرق الثقافية، ووجهته الحضارية في ذاك الزمن.
وهناك، بدأت قصة أخرى… قصة “عبدالخير بتاع السينما”.

  • السينما… ومسرح الحكايات

عندما تأسست سينما الروصيرص، كان عبدالخير من أوائل العاملين بها، بدأ بشباك التذاكر، وكان دقيقًا في الحساب، صارمًا في التنظيم، لكنه مبتسم دائمًا.
عرفته الوجوه الصغيرة والكبيرة، وكان صوته مميزًا حين ينادي بصوت رخيم:
“الفيلم الليلة أكشن… الباكونا عشرة، اللوج خمسة وعشرين!”
لم تكن السينما حينها مجرد قاعة عرض، بل أكاديمية شعبية لتشكيل الوعي، ومنصة للتثقيف، ونافذة على العالم.
وكان عبدالخير حارسها الأمين، يختار بعناية ما يُعرض، ويحفظ النظام كأنما يُدير طقوسًا مقدسة.

  • عبدالخير… والأطفال المشاغبون

في كل حي، هناك من يُحبّه الأطفال حبًا لا تفسير له.
كان عبدالخير بالنسبة لأطفال حي الربيع ومرتادي السينما بمثابة أبٍ روحاني، لكنه لم يكن متساهلًا في الأمور التربوية.
فقد كان يرفض دخول الطلاب للسينما إذا علم أنهم لم يكملوا فروضهم الدراسية أو تسللوا من المدرسة.
وكان يقول بصوته المجلجل:
“السينما ما بتطير… لكن العلم لو فاتك، الزمن ما بيرجّعك!”

ذات مرة، منَع مجموعة من التلاميذ من دخول السينما رغم توسلاتهم. فما كان من بعضهم إلا أن تسلقوا سور السينما الخلفي، وقفزوا إلى الداخل.
ولكن عبدالخير، بعين خبيرة وحس تربوي، اكتشفهم، فأوقف الفيلم، وأضاء الأنوار، وقال مازحًا:
“يا أولادي… القفز للمعرفة أحسن من القفز للسينما!”
ضحك الجمهور، وخجل الأطفال، لكنهم لم ينسوا الدرس، ولا ذلك الرجل الذي كان يمزج الصرامة بالحنان.

  • بيت مفتوح وعقل منير

لم يكن عبدالخير رجلاً للسينما فحسب، بل كان بيتُه واحدًا من بيوت العلم والمروءة في حي الربيع.
كان يستضيف طلاب الصعيد، ويوفر لهم السكن والطعام والمشورة.
وإذا رآهم يتكاسلون أو ينشغلون بالهوى، أعادهم إلى صوابهم بكلمة طيبة أو توجيه صادق.
كان لهم مستشارًا دون أن يدّعي، ومُرشدًا دون أن يتعالَ.
في الشتاء، كان يوزّع البطاطين على من يحتاج، وفي رمضان كان بيته ساحة إفطار جماعي، وفي الأعياد كان أول من يزور بيوت الأرامل والأيتام.
حتى يومنا هذا، ما زال بيته قائمًا في حي الربيع، والناس يعرفونه بـ “بيت عبدالخير”. وإن سأل أحد عن عنوان، قيل له:
“أمشِ قدّام، بعد مسجد الربيع، بتلقى بيت عبدالخير… البيت المفتوح.”

  • المدرّج… وصوت الجماهير

وإن كانت السينما هي مسرح الخيال، فإن المدرّج الرياضي كان مسرح الشغف والحماس… وعبدالخير كان هناك أيضًا.
فقد عمل لسنوات طويلة في استاد الدمازين، مسؤولًا عن شباك التذاكر، بنفس الانضباط والبساطة التي عرفها به الناس.
وكان يسبق الجميع إلى الملعب، يرتّب المقاعد، يُنظّم الطوابير، ويُشجّع بروح رياضية نقية.
لم يكن مجرد عامل، بل كان من رموز الكرة في المدينة، ومعروفًا بولائه لنادي المريخ، يشجّعه بحرارة، ويمازح جماهير الهلال بقوله:
“المريخ دا ما فريق… دا كوكب تاني!”
كان الاستاد في عهده ينبض بالنظام، والاحترام، والفرح الصادق، وكان الأطفال إذا لم يجدوا تذكرة، لجأوا إليه، فيهمس لهم ضاحكًا:
“أدخلوا… بس شجّعوا بأدب!”

  • ذاكرة لا تغيب

قد غابت السينما… وانتهى زمن الشريط ومقعد “اللُوج”، وربما تقلصت حماسة الجماهير في المدرجات،
لكن اسم عبدالخير ظل محفورًا في ذاكرة مدينة الدمازين، وقلوب أهل حي الربيع، وكل من عرفه.
اسمه وحده كافٍ ليفتح شريطًا من الذكريات الطيبة، والضحكات الصافية، والدراما الإنسانية الخالدة.
ندعو الله أن يمدّ في عمره ويبارك في أيامه، فمثله لا يرحل من الذاكرة، ومآثره ستظل جزءًا من وجدان مدينة، ومن تراث شعب.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات