تحررت الخرطوم.
نعم، خرجت منها المليشيا مدحورة، كسيرة، تجر أذيال الخيانة والعار، لكنها تركت خلفها مدينة مدمّرة، مثقلة بالألم، وبحاجة ماسة إلى العقول والسواعد والقلوب.
ومع ذلك، ما زال بعض الناس يعيشون في دوائر التردد والخوف.
يتساءلون: هل نعود؟ متى نعود؟ هل الظروف مهيأة؟
دعوني أقولها بوضوح، وبصوت الوطن الجريح:
“الخرطوم لن تعود كما كانت إلا إذا عدنا نحن كما يجب أن نكون.”
المدن لا تعمرها الحكومات وحدها
الحكومة تُرسي السياسات، وتطلق المبادرات، ولكن الذي يبني المدينة هو الناس.
الخرطوم تحتاج إلى من يُحيي فيها الحركة.
تحتاج إلى من يُوقظ فيها الأذان صباحًا، والطلاب في طابور المدرسة.
تحتاج إلى من يُشعل الأسواق، لا من ينتظر أسعار السلع من على بعد.
تحتاج إلى من يعلق المصابيح في المنازل، لا من يشكو من الظلام عبر الهاتف.
لن تعود الخدمات إلا إذا عاد المواطن.
ولن يشعر اللص بالخوف إن ظلت الشوارع فارغة.
ولن يبقى الجيش في كل شارع وزقاق، إن لم يكن المجتمع نفسه حارسًا لأمنه وسلامه.
الخرطوم ليست قصةً تُروى… بل قضيةٌ تُصنع
أكثر ما يوجع، أن نتحوّل إلى رواةٍ نتغنى بالخرطوم:
“زمان كانت جميلة، مرتبة، نشيطة، عامرة…”
كأننا نحكي عن مدينة في كتاب تاريخ، لا عن عاصمتنا التي كانت قلب السودان، وتنتظر الآن من يُعيد نبضها.
إن الخرطوم التي نحلم بها لن تأتي بالمناشدة، بل بالمبادرة.
ولن تعود بالتحسر، بل بالحضور.
ولن تُبنى بالحنين، بل بالعرق والإرادة والمثابرة.
هذه ليست مرحلة ترف… بل مرحلة إعادة تأسيس وطن
لقد خرجنا من الحرب بعبر كثيرة، أهمها:
أن الغياب يعني أن يحتل الآخر مكانك.
أن من يترك الفراغ، سيدفع ثمنه غدًا.
أن الوطن لا يُحمى من بعيد، ولا يُبنى من الخارج.
الذين عادوا إلى الخرطوم اليوم لا يبحثون عن الراحة، بل يضعون أولى لبنات نهضة السودان الحديث.
هم مؤسسو المرحلة الجديدة،
وكل من يتأخر عن العودة، يتأخر عن شرف المساهمة في ميلاد الخرطوم من جديد.
رسالتي إليكم…
عودوا، لا لأجلكم فقط، بل لأجل الوطن.
عودوا لأن الخرطوم تناديكم:
لتُرمموا حوائطها
لتُصلّوا في مساجدها
لتُحرسوا أسواقها
لتزرعوا ثقتها من جديد
عودوا لتُعلّموا أبناءكم أن البلاد لا تُترك في الخراب، بل تُعاد لها الحياة على أيدي أبنائها.
عودوا لأن الخرطوم لن تُبنى بالغربة، ولا بالمشاهدة، ولا بالدعاء فقط…
بل بالبقاء فيها، وسط معاناتها، وشظفها، حتى تبتسم من جديد.
الخرطوم لنا… ولن نتركها تتعافى وحدها.
هذه معركة الوعي، معركة المواطن، معركة البناء.
فلنكن في الموعد.