في حوار قصير كنت قد أجريت مع الدكتور خالد عثمان رئيس تحرير مجلة ” المهاجر” و التي تصدر اسبوعيا في استراليا، أن يوسع دائر الحوار الثقافي و نقل العديد من الملفات من حقل السياسة إلي الثقافي حتى تجدل البيئة المطلوبة من التعقل و الحوار الهاديء.. و مجلة المهاجر عندما تم نقلها إلي دائرة ” الفيسبوك” وجدت إقبالا كبيرا من قبل المتابعين، و المعلقين على موادها.. و الأغلبية تجذبهم المادة الثقافية..
في ثلاثينيات القرن الماضي تأسست مجلتي النهضة التي أسسها محمد عباس أبو الريش و أسس مجلة الفجر عرفات محمد عبد الله عام 1934م و لعبت المجلتان دورا محوريا في عملية الاستنارة، و الوعي السياسي في المجتمع.. و كانت قد سبقت المجلتان الروابط الإدبية و الثقافية في الأحياء، و كانت تمثل بؤرا للوعي وسط أفراد الطبقة ” الوسطى” التي كانت تتخلف بسبب التعليم الحديث الذي أسسته الإدارة الاستعمارية.. حيث بدأ جيل جديد يتخلق في البلاد كانوا يجتمعون في نادي الخريجين الذي تأسس في عام 1918م، حيث أهداهم الشريف يوسف الهندي قطة أرض لبناء النادي، و الذي مايزال قائما الآن وسط سوق أمدرمان.. لكن هناك رأي أخر يقول: أن الوعي السياسي فجرته ثورة 1924م، و في نفس الوقت كانت قد كشفت التمايز الاجتماعي بعد كتابة و إرسال بيانا معنون من “كرام القوم” و هي الدوافع الأساسية لظهور أسئلة الهوية وسط القطاعات المستنيرة في المجتمع..
بعد أن نالت البلاد استقلالها، بدأت عملية الشد السياسي، و الصراع المحموم على السلطة، الأمر الذي جعل رئيس الوزراء في ذلك الوقت عبدالله خليل أن يسلم السلطة لقائد الجيش الجنرال إبراهيم عبود. الأمر الذي سمح أن يدخل لاعبا جديدا في الساحة السياسية، و يمتلك القوة القادر بها على حسم أي صراع على السلطة.. الأمر الذي جعله أن يصدر العديد من القوانين العسكرية التي لا تسمح بالعمل السياسي، و التعبير عن الرأي. حيث أصبحت فئة واحدة هي المسموح لها أن تفكر نيابة عن الآخرين.. الأمر الذي دفع العديد من المثقفين لنقل العديد من الملفات، و خاصة التي كانت تطرح أسئلة الهوية إلي الساحة الثقافية في عقد ستينيات القرن الماضي.. فتأسست المدارس الثقافية ” الغابة و الصحراء و الخرطوم و أبادماك و غيرها” حيث بدأ الحوار الهاديء في تلك المدارس، و الكل كان ملتزما بقواعد الحوار بعيدا عن التشنجات و الانفعالات.. هذا الانتقال جعل الأحزاب نفسها تتفاعل مع التحولات الجديدة، حيث كان عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي يدعم حركة المثقفين في الحزب من خلال منبرهم “أبادماك” حيث يعتبر البروف عبد الله على إبراهيم من المؤسسين المشرفين على نشاطه، لذلك نشطت حركة الثقافة و الفنون و تمددت خارج الحزب.. الأمر الذي دفع الحركة الإسلامية بقيادة الدكتور الترابي أن تؤسس ” شباب البناء” بهدف أن يكون لها تيارا من المثقفين و المهتمين بالفنون و الإبداع وسط الأجيال الجديدة من الإسلاميين.. و لأول مرة بدأت الحركة الإسلامية تقرر الصرف على هذا القطاع..
بعد انقلاب مايو 1969م و انقلاب 1971م الذي أدى إلي انقسام طولي داخل الحزب الشيوعي، أثر بصورة كبيرة على حركة المثقفين اليساريين، حيث تم التضييق و المحاصرة على القطاع الذي ذهب مع الحزب، و الذين يدورون في فلكهم، و مصطفين تحت رأيتهم.. أما القطاع الذي ذهب مع السلطة، هؤلاء مارسوا التضيق على حركة المثقفين و على نشاطاتهم المختلفة، الأمر الذي جعل هناك مجموعة بعينها مسموح لها بممارسة النشاط، هم الذين كانت لهم عضوية في تنظيم ” الاتحاد الاشتراكي” مما أضعف حركة المثقفين، و الحوار الثقافي بين تيارات الفكر المختلفة.. و في نفس الوقت كان هناك تضيقا على الأحزاب السياسية المختلفة.. كان المسموح لهم وحدهم بالتعبير السياسي هم قيادات الاتحاد الاشتراكي، مما ساعد على إضعاف العملية السياسية، و أيضا إضعاف حركة الثقافة و المثقفين في البلاد..
هذا الضعف؛ و الذي ظهر بصورة كبيرة حتى وسط الطلاب بعد توقيع اتفاقية المصالحة بين الرئيس نميري و الجبهة الوطنية، و هي الفترة التي ظهر فيها تيار الطلاب المستقلين، و بعدها ظهرت الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد إصدار قوانين سبتمبر 1983م… حيث بدا يظهر خطابا جديدا من قبل الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق.. و يدعو إلي صراع الهامش مع المركز، هذا الخطاب نقل أسئلة “الهوية” مرة أخرى من الحقل الثقافي الي السياسي تحت غطاء البندقية، الذي جعل الحوار يعلو فيه عقل البندقية.. و هو عقل لا يسمح برأى أخر، أنما يؤمن بعملية الحسم العسكري، الأمر الذي جعله ينتج ثقافة جديدة تقوم على العنف و القوة و عقل البندقية، هذا التيار الجديد هو الذي سمح إلي ظهور العديد من الحركات المسلحة في البلاد، و أيضا كان نظام الإنقاذ يسير في ذات الطريق، و هو الذي جعل الرئيس البشير يقول: من منصة في بورسودان عام 1995، من يريد السلطة عليه أن يحمل البندقية.. حيث بدأت تغيب مساحات الحوار، و حركة المثقفين تماما، و بدأ عقل جديد هو الذي يقود العمليات العسكرية و السياسية.. لذلك انعدمت ثقافة الحوار بين التيارات المختلفة، و كل حركة تريد أن تلوح ببندقيتها، باعتبارها تريد أن تفرض شروطها على الأخرين.. كذلك بدأ السياسيون أن يقدموا أطروحات الإقصاء و المنع و كل يريد أن يدخل الحوار بالشروط التي يمتلكها و يلقيها على الأخرين.. أن الرجوع إلي الحوارات السابقة العقلانية تحتاج إلي مجموعات جديدة من الشباب ذوي الثقافة، و الأطروحات السياسية الجديدة التي يجب أن تتجاوز الثقافة التي انتجتها الأزمة.. و الذين يجب عليهم أن يكونوا على وعي كامل بمجتمعهم و مشاكله و التحديات التي تواجهه.. أن الحلول لا تتأتى إلا عبر الرجوع إلي الحوار الهاديء الذي يعطي العقل مكانة أكبر من البندقية التي ذات حمولات اشتراطية إقصائية.. أن قراءة التحولات التي حدثت من قبل و من بعد الاستقلال، هي بالفعل اسئلة تحتاج إلي حوارات عقلانية تحاول أن تعيد للعقل مكانته في العملية السياسية بععيدا عن الشعارات خالية المضامين و ذات حولات فقط بهدف التعبئة و الحشد للضد و ليس للفعل الجماعي.. نحتاج لتيارات مستوعبة لعمق الأزمة و التدخلات الخارجية التي تمثل عقبة في حل مشكلات البلاد؟… نسأل الله حسن البصيرة…