رغم جراح الحرب، يظل لسان الخرطوم العاصمة القومية، يهمس بنداء لا يسمعه إلا من عرف ترابها، وعشق ضجيج أسواقها، واشتاق لهدير المواصلات في شوارعها. عودة الحياة إلى العاصمة الخرطوم ليست أُمنية بعيدة المنال، بل هي ضرورة وطنية ملحة تتطلب قراراً جماعياً يتجاوز الخوف إلى الفعل، ويتحدى المجهول ببوصلة الأمل .
إن الخرطوم التي كادت أن تتحول إلى مدينة أشباح، لا تزال تملك من الحياة ما يكفي لتُبعث من تحت الركام، لكن هذه العودة تظل مشروطة بعودة الخدمات الأساسية، وعلى رأسها الكهرباء والمياه، فهما عصب الحياة، وبدونهما لا يمكن استقرار ولا إنتاج، كما أن عودة المؤسسات الاتحادية إلى مقارها الرئيسية في قلب الخرطوم، بدلاً من تواجدها في العاصمة الإدارية بورتسودان أو غيرها من المدن، يُعد مؤشراً جوهرياً على عودة الدولة لتمارس سيادتها من العاصمة الأم، وليس من أطرافها.
الحياة لا تعود دون الإنسان، وعودة المواطنين إلى منازلهم التي أُجبروا على مغادرتها قسراً بفعل إرهاب مليشيا آل دقلو، هي الخطوة المفصلية التي تقلب المعادلة، فكل بيت يُضاء من جديد، هو نبض جديد في شريان العاصمة، وكل متجر يُفتح من جديد، هو رزق جديد لعامل وأسرة، وكل وسيلة مواصلات تعود للعمل، تربط أطراف الولاية بروحها وتكسر عزلة الأحياء .
ومع هذه العودة المتنامية، تبرز على السطح تحديات لا تقل خطورة عن غياب الخدمات، وعلى رأسها التفلتات الأمنية المتزايدة في ولاية الخرطوم، والتي باتت تهدد حياة الأبرياء وتقلق مضاجع العائدين. إن الانتشار المتزايد للجريمة المنظمة، خاصة تلك المسلحة، التي راح ضحيتها عدد من الأبرياء، يستدعي تحركاً عاجلاً من اللجنة الأمنية للولاية ، فالتغاضي عن هذا الوضع قد يُغرق الخرطوم في فوضى لا تُحمد عقباها ، وعلى الجهات المختصة أن تتعامل مع الأمر بجدية وحسم ، حماية لأرواح الناس ، وتحصيناً لمسار العودة الذي بدأ يشقّ طريقه وسط الركام والعتمة.
ومع ذلك ، فإن بعض الأصوات التي لا تزال تروج لصورة الخرطوم كولاية مهجورة، إنما تُسهم بشكل مباشر في إطالة أمد المعاناة ، وحرمان أهل الولاية الخرطوم من العودة إلى حضنهم الطبيعي. هذه الأصوات، عن قصد أو عن جهل، تغض الطرف عن مأساة النازحين في أطراف المدن، وعن آلام اللاجئين في المنافي القسرية، حيث الغربة والغلاء والمضايقات اليومية، بل وتكاليف الحياة التي تضاعفت دون أي مردود.
العودة الطوعية، والتي بدأت قوافلها بالتحرك، ليست مجرد نزوح عكسي، بل هي قرار بالعودة إلى الكرامة. هي إعلان رفض لليأس، ومواجهة لواقع فرضته الحرب بعناد لا يليق بشعب اعتاد النهوض مع كل كبوة. ومن يعود إلى منزله اليوم، حتى إن جلس على الأرض أو افترش الركام، فقد كسب الطمأنينة، ومزق فاتورتين ثقيلتين: فاتورة الإيجار، وفاتورة الانتظار.
الخرطوم لا تُبنى بالقرارات من بعيد، بل تُبنى بعودة سكانها، بحنينهم وعرقهم وذاكرتهم. تعود بالحرفيين في ورشهم، بالبائعين في أسواقهم، بالأطفال في مدارسهم، وبصوت الأذان يصدح في مساجدها.
نعم، ما زال الطريق طويلاً، وما زال أمام الدولة مسؤوليات كبرى لإعادة الخدمات وتأمين الحياة، لكن البداية الحقيقية لن تأتي من السلطة فقط، بل من القرار الشعبي بالعودة، من روح المواطن الذي يرفض أن تكون ولايته رهينة الماضي، وينهض بها رغم الجراح.
الخرطوم تنادي أبناءها، وكل من لبّى النداء، فهو لا يعود إلى بيته فقط، بل يشارك في إعادة بناء وطن. فبناء الخرطوم يتطلب تكاتف الجميع، جهدًا شعبيًا على رسمي لتنهض الخرطوم من جديد، كعروس في يوم زفافها…لنا عودة.