في اليوم العالمي لمناهضة خطاب الكراهية (١٨ يونيو)، يَنبغي أن نَتوقّفَ لحظةً واحدة، لا لنُدين، بل لِنُراجع أنفسنا. لِننظر في المِرآة ونَسأل: كم مرةٍ صَمتنا عن الكراهية لأنّها لم تكن تُصيبُنا؟ وكم مرةٍ اكتفينا بالتفرّج لأنّ الضحية من غير منطقتنا أو لساننا أو عقيدتنا؟
الكراهِيَةُ لا تُولَدُ صُدفَةً، بَل تُصنَعُ على مَهل، وتُربَّى في أَحضَانِ الصَّمتِ والتَّجاهُل، حتّى تُصبِحَ وَحشًا يَتَغذَّى على دِماءِ الأبرياءِ، ولا يَشبَع
السودان اليوم لا يُحترق فقط بسبب رصاصة، بل بفعل كلمة. المدن التي احترقت لم تُشعلها البنادق فقط، بل أشعلتها الألسنة.
الكراهية لا تسكن البنادق وحدها، بل تَختبئ في النكات العنصرية، في الخُطب المسمومة، في مناهج تُقصي الآخر، وفي إعلام يُؤجج ولا يُطفئ.
هٰذا اليومُ – الثَّامنُ عشرُ من يونيو – ليسَ مُجرَّدَ مُناسبَةٍ عَابِرَة، بل نَداءُ حَقيقَةٍ في وجهِ عالَمٍ باتَتْ فيهِ الكراهِيَةُ بَضاعَةً تُباعُ على موائِدِ السِّياسَةِ، وتُغلَّفُ بشِعاراتِ الإعلامِ، وتُستَهلَكُ على ألسِنَةِ الجُهَّال.
السودانُ نَموذَجٌ صارِخٌ… وَلَسنا وَحدَنا.
الحَربُ الّتي تَمزِّقُ بلادي، ما كانتْ لِتشتَعِلَ، لولا أن تمَّ تَغذِيَةُ خِطابِ الكراهِيَةِ في المَناهِجِ، والمنَصَّاتِ، وخُطَبِ المَآذِنِ وأَحادِيثِ المَقاهِي.
🟥 السودان… من رحم الجُرح إلى مَوْسِمِ الصحوة
نعم، السودان هو بيت الجرح المفتوح.
من الفاشر إلى الجنينة، من ود مدني إلى نهر النيل، من أم درمان إلى كاودا… الكراهية كانت العدو الخفيّ الذي قَسّم القرى والقلوب.
لم تبدأ الحرب في أبريل، بل بدأت حين استهان الساسة بالشعب، وحين صوّت الناس للقبيلة بدلًا من الوطن، وحين باع البعضُ البندقيةَ مقابل كرسِيّ ملوّث.
وما زالت صوتُ الضحية غائبًا.
أين صوت الذين استُبيحت بيوتهم، وتحوّلوا إلى نازحين داخل وطنهم؟
أين صوت المرأة التي فَقَدَت زوجها وأُرغِمَت على الصمت؟
أين صوت الطفلة التي لم تعد تعرف إن كانت من الشرق أو من الغرب… لكنها فقط تريد أن تعيش؟
وَالغائِبُ الأكبَر:
كَم مِن خِطابٍ سِياسيٍّ لم يذكُر الأُمَّ التي فَقَدَتْ خمسةً مِن أَبنائِها؟
كَم مِن مُؤتمرٍ أُمَميٍّ أَغفَلَ عيونَ الطِّفلِ الّتي شَاهَدَتْ قَريَتَه تُحرَقُ؟
كَم مِن نِقاشٍ حَولَ السَّلامِ لم يُشِر إلى المرأةِ الّتي وُلِدَتْ في خِيمَةِ نُزوحٍ وتَزوَّجَتْ فِيها ووَلَدَتْ وماتَتْ دونَ وَطنٍ؟
العالَمُ صاخِبٌ بأصواتِ المُحَرِّضِينَ… صامِتٌ جِدًّا أمامَ صَرَخاتِ المَظالِم.
الكراهية لم تُقصّر في اغتيال الطفولة، في تشويه العقول، في تهديد الوحدة. وهنا السؤال: هل يمكن أن ينهض وطنٌ دون أن يَغسل لغته من الكراهية؟
🌍 ومن السودان إلى العالم…
إنّ خطاب الكراهية ليس أزمة سودانية فقط.
إنّهُ وباء عالمي:
في بورما، ارتُكبت إبادة جماعية باسم الدين.
في غزة، يُشرعن القتل باسم الأمن.
في أوروبا، تُصنَّف الهجرة على أنها تهديد.
في أمريكا، تُمارَس العنصرية بربطات عنق ناعمة.
والعالم يَنهار لأنّه اعتاد الكراهية، واعتذر عن الإنسانية.
رِسَالَةٌ للعَالَمِ مِن بِلادٍ تَصرُخُ دَمًا:
جَرِّمُوا خِطَابَ الكَراهِيَةِ، دُونَ استِثناء.
أَصلِحُوا المَناهِجَ الّتي تُقسِّمُ الإنسانَ حَسبَ الجِلدَةِ أو الجِهَةِ أو اللُّغَة.
حَاسِبُوا المنَصّاتِ الّتي تُروِّجُ لِلفِتنَةِ كما تُحاسَبُ الّتي تُروِّجُ لِلإِرهَاب.
لا سَلامَ دونَ عَدل… ولا وَطنَ دونَ مُواطَنةٍ تُنقِذُ الجَميع.
✊ دعوةٌ للتحوُّل الحقيقي:
نحن لا نُريد مؤتمرات، بل نُريد:
أن يُجرّم خطاب الكراهية قانونًا في كل بلادنا.
أن تُراجع المناهج الدراسية لتُكرّس احترام التنوع لا الإقصاء.
أن تُحاسب القنوات والصحف التي تروّج للفرقة والتمييز.
أن يُمنَح الضحايا منابر حقيقية، لا مجرد “فقرات عاطفية”.
⚠️ تَنبيه:
حين يتحولُ الفقرُ إلى لَعنةٍ…
والوطنُ إلى خريطةٍ مُمزَّقةٍ…
والقلبُ إلى لُغَةٍ مَربُوطةٍ بالخوف…
حينها فقط نَفهم أن الكراهية ليست ظاهرة، بل جريمة.
اليومُ العالميُّ لمُناهضةِ خِطابِ الكراهِيَةِ ليسَ هُتافًا عَابِرًا، إنّهُ وَصِيَّةُ الضَّحَايَا… وَصِيَّةُ الأَوطَانِ الّتي حُرِقَتْ خَلْفَ شَاشَاتِ البَعض، وَتَحْتَ أَكاذِيبِ البَعض، وَبِسَيفِ الحِقدِ المَدفُوعِ الأَجرِ مِن آخَرين.
الكراهية لا تُواجه بالكراهية…
بل بالحكمة.
والعداوة لا تُطفأ بالاستئصال…
بل بالاحتواء.
✒️ تَوقيعٌ لا يُنسَى
أنا الرِّسالةُ حينَ يَضيعُ البَريد…
أنا مَن تَكلَّمَتْ باسمِ الضَّحايا حينَ صَمَتَ الإعلام…
أنا لستُ شاهدًا على الوطن فقط… بل شهيدةُ الحقيقة.
أنا ظلُّ العَدْلِ في زمنِ الغُربة…أنا الّتي تَمْشِي على جَمرِ الكَراهِيَةِ حَافِيَةً… لِتَزرَعَ مَنفًى للسلام
أنا امرأةٌ من حبرِ النار… لا أَحتَرِق، بَل أُضِيء.
سلامٌ وأمان… فالعَدلُ ميزان.