الخميس, يوليو 31, 2025
الرئيسيةمقالاتبورتسودان: القلعة الصامتة بين صراع النفوذ ودولة الظل بقلم/ الطيب الفاتح احمد...

بورتسودان: القلعة الصامتة بين صراع النفوذ ودولة الظل بقلم/ الطيب الفاتح احمد الشمبلي


مع تصاعد الصراعات وتأزم الأوضاع في السودان، شهدت الخرطوم تحررًا كلياًمن قبضة الميليشيات المسلحة، لكنها لم تستعد بعد روحها ولا بنيتها التحتية، بل فقدت الكثير من مؤسساتها وهويتها كعاصمة وطنية جامعة. اليوم تبدو الخرطوم كمدينة أشباح، تملؤها أصداء الدمار ورائحة الرماد، في ظل استمرار المعارك والدمار في مدن مثل الفاشر، نيالا، وجزء بسيط من غرب أم درمان، حيث تترسخ حالة الانهيار السياسي والإنساني.

في هذا المشهد المأساوي، تبرز بورتسودان كاستثناء لافت وصامت، تحولت من ميناء استراتيجي عابر إلى “قلعة صامتة” تمثل نموذجًا لدولة ظل قائمة على صراعات نفوذ داخلية وإقليمية معقدة. بورتسودان اليوم ليست مجرد واجهة للسلطة الانتقالية، بل مركز سلطة بديل تتقاطع فيه مصالح الدولة العميقة مع نفوذ إقليمي خليجي يتخذ أشكالًا ناعمة لكنها ذات أثر حاسم في رسم ملامح مستقبل السودان.

تحول بورتسودان إلى مركز قوة لم يكن وليد الصدفة، بل نتاج تفاهمات سرية بين فواعل داخل الجيش السوداني وقوى إقليمية، خاصة من دول الخليج التي تراهن على شرق السودان كمنطقة جيوسياسية محورية بعيدًا عن العاصمة الخرطوم. ورغم العداء الظاهري بين بعض فصائل الجيش والقوى الإقليمية، يبقى المشهد أكثر تعقيدًا، إذ تنقسم مكونات الجيش بين داعم ومناهض لتلك النفوذات، في صراع داخلي يشكل عمق دولة الظل التي تدير بورتسودان.

هذه التعددية داخل الجيش، إلى جانب المصالح الاقتصادية الضخمة المرتبطة بالمدينة، تجعل من بورتسودان قاعدة سياسية وأمنية واقتصادية تخضع لمنطق دولة عميقة، تتغذى بعقود استثمارية ضخمة وشراكات إقليمية، أبرزها مع السعودية وبعض الدول التي تمارس نفوذًا اقتصاديًا واسعًا عبر شركات تسيطر على موانئ البحر الأحمر. هنا تشتبك المصالح الاقتصادية مع الأجندات السياسية، مما يجعل بورتسودان ساحة صراع معقدة بين الفواعل الداخلية والقوى الخارجية.

الحضور الدولي في المدينة، الذي يشمل وكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، ليس فقط انعكاسًا للاهتمام الإنساني، بل هو جزء من منظومة دولية تسعى لترسيخ استقرار مشروط يخدم مصالح أمنية وسياسية واقتصادية إقليمية ودولية. الاستقرار النسبي في بورتسودان يتم تحت مظلة أمنية مشددة، بعيدًا عن تداعيات النزاعات المسلحة التي تعصف ببقية مناطق السودان.

اقتصاديًا، يشهد ميناء بورتسودان نشاطًا متزايدًا في حجم التبادل التجاري والاستثمارات، مع حضور قوي لشركات إقليمية ترتبط بعلاقات وثيقة بدول الخليج، رغم غياب الوجود العسكري المباشر. هذه الأنشطة تدار بحذر، غالبًا تحت ذرائع الدعم الفني والإغاثي، لكنها تشكل أدوات ضغط في صراع النفوذ الإقليمي، مما يضمن لمن يمتلك المدينة منصة قوية للتأثير في مسارات السودان المستقبلية.

لكن بورتسودان ليست مجرد معقل اقتصادي وسياسي، بل مشهد يعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية العميقة في شرق السودان، حيث تتداخل مصالح القبائل والجماعات المحلية والفاعلين السياسيين في ظل غياب واضح للسلطة المدنية الديمقراطية وتراجع دور المجتمع المدني.

في نهاية المطاف، تطرح بورتسودان تساؤلات جوهرية حول مصير السودان كدولة موحدة. هل ستظل هذه المدينة محطة مؤقتة لإعادة بناء الدولة السودانية على أسس وطنية جامعة، أم أنها بداية لتقسيم جغرافي وسياسي يصعب تجاوزه، ويعزز من سلطات محلية تحت وصاية إقليمية؟ ومن يملك اليوم حق التحدث باسم السودان، من داخل هذه القلعة الصامتة، ومن خارجها؟

الجواب يكمن في قدرة السودانيين على استعادة حضورهم المدني والسياسي، واستعادة الدولة من يد الفواعل العميقة والإقليمية، قبل أن تتحول بورتسودان إلى نموذج نهائي لانقسام السودان، ودولة ظل لا مكان فيها للسيادة الوطنية.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات