حين تسير في شوارع مدينة خرجت تَوًّا من عنق وعمق الحرب، لن تُفكّر كثيرًا. فعيناك تفعلان ذلك قبلك. تلتقطان كل ما هو مكسور ، مائل ، مُتفحّم، مُلطّخ بذكريات الدم والرماد (والتروس ) ترى واجهات المحال وقد شاخت، الأرصفة وقد تشقّقت كأنها وجوه تعبت من الانتظار، والجداريات الملونة وقد اختلطت ألوانها بدماء لم تجف.
هذا، ما يُسمّى بـ “التلوث البصري في زمن الحرب” — لكنه ليس مجرّد مشهد .. بل هو لغة صامتة ، رواية بلا كلمات.
وعندما تتشوّه الأبنية، واللوحات، والتماثيل، وحتى ابتسامات الأطفال المرسومة على جدران المدارس. يتحول الفن إلى أنين، واللون إلى نداء استغاثة. في زمن السلم يُرسم الجمال بفرشاة فنان وفي زمن الحرب قد يُرسم بأصابع مبتورة.
تمشي بين الركام فتُصادف رسمًا لطفل على حائط نصفه مهدوم. مَن الذي رسمه؟ طفل نجى؟ أم والد طفل حاول أن يترك أثرًا قبل أن يغيب؟ هل تلك الألوان الزاهية محاولة لإنكار السواد والرماد ؟ هنا الفن لا يُزيّن الجدران، بل يُقاوم الزوال. لكنه أيضًا، في ازدحام الحزن وتراكم الرسائل، قد يتحوّل من صرخة إلى فوضى، ومن معنى إلى ضجيج.
التلوث البصري في زمن الحرب لا يأتي فقط من الدمار، بل من تناقض الصور.
.. من ملصق شهيد بجوار إعلان متهالك لحفلة أُلغيت منذ زمن ما . من شعارات الأمل وقد مزقتها رصاصات اليأس. من تمثال نصفه مفقود، لكنه لا يزال واقفًا صامدا .. ليس بفعل الفن، بل بفعل العناد.
ووسط هذا كله، يبقى السؤال: هل يمكن للجمال أن ينجو؟
هل يمكن لمدينة مبتورة الذراع أن تعزف على أوتار الحنين؟
الجواب لا يُكتب بالحبر، بل يُرسم على وجه طفل حين يعود إلى المدرسة، في طريق محاطٍ بجداريات تُحاول أن تبتسم من بين الهدم و الشقوق.
نعم، الجمال ينجو. لكنه يخرج من الحرب بعينين دامعتين، وبقلب مليء بالغبار..
فلنُنقذ ما تبقى من الألوان، من الخطوط، ومن التفاصيل الصغيرة التي تهمس للروح. دعونا نُعيد تشكيل المدن لا فقط بالطوب والإسمنت، بل بالحب والانتاج ، و الحكايات.
فالفن ليس رفاهية.
إنه مقاومة.
فإذا استطعنا أن نُنقّي عيوننا من التلوث البصري للحرب، ربّما نقدر أن نُنقّي أرواحنا أيضًا.