في وقتٍ ينشنغل فيه البعض بمعارك جانبية، لا طائل منها سوى مزيدٍ من التشرذم، يظل العدو الحقيقي ماثلاً أمامنا ينهش في جسد الوطن بلا رحمة. عدوّنا ليس هذا المكوّن أو ذاك، وليس هذه القبيلة أو تلك، وإنما التخلف بكل صوره، والفساد بكل ألوانه، والتبعية التي عطّلت قدراتنا وجعلتنا نتقوقع في دوائر ضيقة من الصراعات العبثية.
إن معركتنا الحقيقية يجب أن تُوجَّه إلى حيث نصنع مستقبلنا: ببناء الإنسان السوداني، وتأهيله ليكون قادراً على الإنتاج والإبداع والمنافسة. فالتنمية تبدأ من الإنسان وتنتهي عنده، ولا يمكن لأمةٍ أن تنهض إذا ظل أبناؤها أسرى للفقر، والجهل، والمرض.
وفي قلب هذا التحدي تكمن قضية التعليم. فبلا تعليم نوعي متين، يربط المعرفة بالمهارة والبحث بالابتكار، لن نكسر قيود التخلف. نحن بحاجة إلى ثورة تعليمية تُعيد الاعتبار للمدرسة والجامعة والمعهد، وتجعل من الطالب مشروعاً لمواطن فاعل في الاقتصاد والمجتمع، لا مجرد حامل لشهادة.
لكن التعليم وحده لا يكفي، فالجسد المريض لا يستطيع أن ينهض حتى لو كان عقله متعلماً. لذلك فإن الصحة العامة ليست ترفاً، بل هي خط الدفاع الأول عن المجتمع. تحسين الخدمات الصحية، وتطوير المستشفيات والمراكز الريفية، وتوفير الدواء، وتدريب الكوادر الطبية، كلها أولويات عاجلة إذا أردنا لأجيالنا أن تكبر وهي قادرة على خدمة وطنها.
وهنا يظهر عدونا الحقيقي بأوضح صوره: التخلف الإداري، والفساد المؤسسي، وانهيار البنية التحتية. فلا يمكن لبلد أن ينهض بإدارة مترهلة، ولا بخدمة مدنية قائمة على المحسوبية لا على الكفاءة. إن معركتنا الحقيقية هي في إصلاح الإدارة العامة لتكون خادمة للمواطن لا عبئاً عليه، وفي بناء شبكة طرق وكهرباء ومياه واتصالات، تجعل من السودان بلداً متصلاً داخلياً ومنفتحاً خارجياً.
أيها السودانيون: دعونا من المعارك الانصرافية، ولْنواجه عدونا الحقيقي. فالنصر لا يتحقق بجدلٍ عقيم ولا بخطاباتٍ طنانة، بل بعملٍ شاقٍ منظم، وبوحدةٍ حول هدفٍ أكبر من مصالح الأفراد والجماعات.