معلوم أن المصالح تمثل القضية الجوهرية في السياسة، و تعتبر المصالح هي المحفز للصراع إذا كان داخل الدولة الواحدة، أو في العلاقات بين الدول، و كل الحروب التي تنشأ في الدول، أو في المحيط الإقليمي، أو العلاقات الدولية، سببها المباشر هي المصالح، و لكن تتغيير أنواع المصالح، إذا كانت شخصية، أو مجتمعية في سياقات مناطقية أو جهوية أو وطنية و دولية، و هناك مصالح ممتدة خارج حدود الدولة الواحدة .. و أيضا معلوم أن الوعي السياسي يتطور و يتغيير نتيجة للأحداث التي تحدث في المجتمع المحلي و الدولي.. و الأحداث ربما تحدث نتيجة لانفعالات أو ردات فعل معاكس دفاعا عن المصالح.. لكن تطور الوعي يحدث نتيجة لدراسة تلك الأحداث، و معرفة أسباببها، و القوى المحركة لها و المؤيدين لها، إلي جانب درسة كيف تكون ردة الفعل المضادة لها.. و من هنا تحدث التغييرات في المواقف السابقة، و تبدأ تظهر مواقف جديدة، تحتم تغيير الأدوات السابقة بأدوات جديدة تتلاءم مع طبيعة التغيير و الصراع التي تحدثت..
و حتى لا يصبح الحديث نظري، كما يقال حديث “مثقفاتية” نضرب أمثالا بالوقائع و التغييرات التي حدثت.. نبدأها ب “الاتفاق الإطاري” في فترة تلك الفترة كانت قوى ” الحرية و التغيير المركزي” هي التي تقود العملية السياسية و كان خطابها هو المتابع لأنها هي صاحبة الكلمة.. رفضت حتى الجلوس مع قوى ” الحرية و التغيير الديمقراطي” و هي التي كانت تحدث الفعل.. بعد الحرب تغير المشهد السياسي تماما، تراجع دور قوى ” الحرية و التغيير المركزي” و صعدت ميليشيا الدعم السريع على قمة المشهد، و أصبح خطابها هو الخطاب الذي يجب أن يتابع، عندما بدأ قائد الميليشيا محمد حمدان حميدتي يقول لابد من القبض على البرهان و اعتقاله، و سيطرت الميليشيا على ولاية الخرطوم ثم من بعد ذلك على ولايات الجزيرة و ولايات دارفور ما عدا الفاشر و سنار و جزء من النيل الأزرق و جزء كبير من كردفان و جزء من ولاية النيل الأبيض.. كان خطابها يتركز على القضاء على القوات المسلحة لأنها تابعة للكيزان، و أنها تريد أن تصفي الفلول و الكيزان و دولة 56و تهدد الدخول في الولايات الشمالية و الشرقية.. بعد ما فقدت الميليشيا ولاية الخرطوم و سنار و الجزيرة و خرجت من النيل الأزرق و الأبيض و أصبح القتال محصورا في ولايات كردفان و دارفور.. تغير خطابها السياسي تماما بأنها تريد التفاوض و الجلوس للحل السلمي.. هذا التغيير حدث نتيجة للمتغرات على الأرض و تغيرت الأدوات كان الجيش يدافع عن مناطقه أصبح يهاجم الميليشيا في أماكن تمركزاتها و بالتالي تغير الخطاب السياسي.. و تغيير الوعي وسط الشارع السوداني الذي كان يقول ” معليش ما عندنا جيش” إلي استنفار لحمل السلاح و مقاومة شعبية مسلحة تقاتل تحت إمرة الجيش صفا واحدا، هؤلاء تغير وعيهم و هؤلاء هم الذين سوف يصبحوا قادة سياسيين في المستقبل…
إذا انتقلنا إلي مراقبة قطاع المثقفين، أو النخب السياسية تجد أن خطابها لم يحدث فيه تغيير يذكر، أو ربما يكون هناك تغييرا طفيفا عند البعض، ليس له أثرا في حركة الوعي الجديدة في المجتمع، لأنها نخب لا تريد الاعتراف بالمتغيرات، و تعتقدها ضد مصالحها ليست العامة بل المصالح الخاصة لكل فرد فيهم.. و هذا هو الجمود المفتعل غير المتأثر بالتغييرا التي تطرأ في الواقع و الساحة السياسية.. هؤلاء يعتقدون أن الاعتراف بمتغيرات الواقع سوف يؤدي إلي تغيير في خطابهم و يعتبرون ذلك هزيمة لهم.. هناك بعض الكتاب اليساريين في ظل المعركة ينادون بإنسحاب الجيش من الساحة السياسية و تسليمها للمدنيين.. و هؤلاء يجب أن يدركوا مادامت الحرب دائرة في البلاد، أن الجيش لن ينسحب عن الساحة السياسية.. صحيح هو عين رئيس للوزراء لتشغيل المؤسسات الخدمية، و المتعلقة بشئون المواطنيين، و لكنه سوف يظل مسيطر سيطرة كاملة على مؤسسات السيادة، و هو الجهة المخول لها حتى فرض قوانين الطواريء، و تجميد القوانين الأخرى.. هذا واقع سائد و عدم الاعترف به لا يجعل الشخص يحدث تغييرا في خطابه، و سوف يظل يكرر مقولاته دون أن يكون لها صدى في الواقع..
أن القوى السياسية التي تحاول أن تضع شروطا لأية عملية سياسية، سوف تجد نفسها مستقبلا تستجدي الآخرين لكي يسمحوا لها بالمشاركة، فهي مادام لا تنظر لمتغيرات الواقع و تتوقع أن هناك قوى أخرى سوف تشكل لها رافعة للسلطة، تكون عمدا جمدت عقلها حتى لا تشعر بالهزيمة النفسية.. أن الأحداث الناتجة عن الحرب تصبح سببا رئيس في تغيير الأجندة في الساحة السياسية، و أية تغيير يحدث يتطلب أدوات جديدة تتلاءم مع طبيعة المتغير.. و عندما يقال أن الأحداث المتغيرة سوف تبرز منها قيادات جديدة تنداح على الساحة و تزاحم الذين كانوا مسيطرين عليها هي حقيقة.. و أية تغيير يحدث في القيادات سوف يكون له أثر كبير في تغيير الأجندة السياسية.. هذه المتغييرات في القيادة ليست قاصرة على قوى سياسية بعينها بل سوف تحدث في كل القوى السياسية.. و حتى المؤتمر الوطني و غيره من القيادات الإسلامية التي كانت قبل الحرب سوف تتغير بحكم طبيعة الصراع لكي تبرز قيادات جديدة تحمل رؤى و تصورات مغايرة.. و أغلبية القيادات التي كانت قبل الحرب سوف تجد صعوبة في التواصل مع الأجيال الجديدة مستقبلا.. أما الأحزاب المغلقة و التي لا يخترق الضوء عقول قيادتها سوف تصبح على هامش الفعل السياسي كما هي عليه الآن، و ستظل تصرخ لإثبات وجود ليس إلا… نسأل الله حسن البصيرة…