تطل على الشعب السوداني الذكرى السادسة لثورة ديسمبر المجيدة القالعة لنظام البشير، ولاتزال الأرض تتخضب بدماء الشهداء الأبرار، والفضاء تنوء بصراخ الأطفال، وعويل النساء للهول الذي أصابهم من مشاهد تقشعر منه الأبدان جراء هذه الحرب المفروضة عليهم، بدلاً عن السلام، والحرية، والعدالة التي أنشد بها الثوار تمهيداً لتأسيس عهداً جديداً تنيره مفاهيم سليمة تضع حداً لمسببات الإحترابات والصراعات الدموية.
وما كان يومذاك أمام الثائرين، يوم أن اشتدت الحالة المعيشية، والضائقة المالية والإقتصادية، والقمع الممارس ضد توَّاقي العهد الجديد، خيار سوى التحشيد، ومنازلة جبروت النظام البائد بإضرام جذوة الثورة في الثالث عشر من ديسمبر 2019م بمدينة الدمازين حاضرة إقليم النيل الأزرق في أقاصي جنوب البلاد، وفي السادس عشر من الشهر ذاته حينما أوقد طلاب مدرسة دارفور الثانوية بمدينة الفاشر “آداب العاصي” عاصمة ولاية شمال دارفور، غربي البلاد، ومن ثم امتدت شعلة لهب الثورة شمالاً أكثر إشتعالاً بمدينة “الحديد والنار” عطبرة في التاسع عشر من ديسمبر حيث أكتسبت الثورة التسمية الرسمية “ثورة 19 ديسمبر المجيدة”.
الثورة التي قصد بها الشبَّان طي صفحات الفشل المتلازم في مفاصل وأجهزة الدولة من الحروبات الأهلية المتوارثة منذ خروج المستعمر، والمظالم السياسية والاجتماعية،والثقافية، أملاً ورجاءً بفتح آفاق جديدة تستوعب متغيرات العصرنة التي تلفظ كافة أشكال التبعية والوصايا على الشعوب في القضايا السياسية، والتنموية، والخدمية نظراً للاستنارة المعرفية الواسعة التي توصل إليها أجيال ثورة ديسمبر المجيدة مقارنة بثوار أكتوبر وأبريل من القرن الماضي، حيث فشلت الحكومات الانتقالية حينذاك، بل حتى المنتخبة منها في اقتلاع الجذور العميقة للمشكلة الوطنية مما أدى بطبيعة الواقع إلى تأسيس دولتين متجاورتين، ولم تك ذلك هو الحل الناجع بل هو زيادة صب الزيت على النار في المشكلات الحقيقية القائمة في كلا الدولتين.
ولما أعاد الحلف السياسي المُشكَّل من “إعلان قوى الحرية والتغيير” قراءة ذات الكتاب المقروء من سوالفها الحاكمة، كانت بوادر سقوطها بائنة بينونة كبرى، حيث تجلت مشغوليات الإئتلاف السياسي الحاكم في ملاحقة خصومها السياسية، تشفياً وانتقاماً، وهي الميزة التي اتصفت بها جميع الحكومات الوطنية، من الفصل التعسفي في الخدمة العامة، ومصادرة الأموال والأملاك، والتعذيب في المعتقلات لمخالفي الرأي السياسي- إنتهاكاً سافراً للنصوص الدستورية والقانونية المجازة لذلك- توهماً منها بأن ذلك يعمَّر بقاءها في سدة الحكم، ولا عزاء من جهة أخرى، لإهتمامات الشارع وقضاياه المشروعة من الحصول على جودة الخدمات وتحقيق مشروعات التنمية تجعله في مصاف الدول الناهضة والمتقدمة.
ولعلَّ أولى إهتمامات “أهلي الغبش” المكتوين بنيران الحرب داخل مخيمات النزوح واللجوء في المرحلة الراهنة هي القضاء على هذه الحرب الدائرة التي أزهقت نفوساً زكية بغير حق في كل بيت سوداني، ويتمَّت أطفالاً كثيراً، ورملت نساءً كثيرات وأثكلت أمهاتاً عزيزات، وخلفت آلافاً من المعاقين جسدياً، وعقلياً، ونفسياً.. لذا الشعور بالأمان والسلام الدائم وتطبيع الحياة العامة إلى مجراها لا يتحقق ذلك إلا بمعالجة تراكم المشكلات التاريخية التي ظلت تشعل فتيل الثورات والانقلابات العسكرية، وبالغوص في أعماقها بمشاركة واسعة لا يقتصر على القوى السياسية والمدنية والعسكرية وحدها بل جميع القطاعات النقابية، والاجتماعية، والثقافية، والرياضية، والمرأة، والشباب، والطلاب، والإدارات الأهلية، لعل هذه المشاركات والنقاشات العميقة -حتى إذا استمر تداولها عقداً كاملاً- عساها أن تؤسس لدستور دائم يضمن سلامة واستقرار البلاد. وأية إبرام صفقة سياسية عبر محادثات السلام المزعوم توزع فيها المناصب الدستورية والحقائب الوزارية دون كنس المفاهيم الخاطئة في ممارسة الحكم لا تعد سوى وقود لاستدامة نيران هذه الحروبات.