النظام المصرفي وسلامته بعد حرب 15 أبريل
أولاً: مقدمة
يشكل القطاع المالي في السودان العمود الفقري للنشاط الاقتصادي، إذ يشمل المصارف والمؤسسات المالية غير المصرفية التي تقوم بدور الوساطة المالية (جمع المدخرات من الجمهور وإعادة توظيفها في شكل قروض وتمويلات).
اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 أحدث صدمة كبيرة للقطاع المصرفي، إذ تأثرت البنية التحتية (المباني والمراكز المالية)، حركة الفروع، الأنشطة التمويلية، والقدرة التشغيلية للمصارف والمؤسسات المالية.
هذا التقرير يقدّم قراءة وتحليلًا لأداء النظام المصرفي بعد الحرب، استنادًا إلى بيانات بنك السودان المركزي لعام 2023.
ثانياً: أداء بنك السودان المركزي بعد الحرب
• توقف الفروع: توقفت 8 فروع للبنك عن العمل حتى نهاية 2023 (من أصل 17 فرعًا في 2022)، بينما استمر نشاط البنك عبر 9 فروع في الولايات الآمنة مثل بورتسودان، دنقلا، كسلا، والأبيض.
• ارتفاع الأصول: ارتفعت أصول البنك (إجمالي ما يملكه البنك من نقد وأرصدة واستثمارات) من 9.85 تريليون جنيه في 2022 إلى 16.45 تريليون جنيه في 2023 (+66.9%).
• محركات النمو:
- الاستدانة المؤقتة للحكومة (+117%) لتمويل العجز الحكومي.
- تمويل المؤسسات العامة (+159.8%).
- ارتفاع المساهمات في البنوك الأجنبية (+74.4%) نتيجة تدهور سعر الصرف (من 580.3 إلى 1001.9 جنيه للدولار).
• التزامات البنك: ارتفعت خاصة تجاه المراسلين بالخارج (+104.4%) والحكومة المركزية (+83.3%).
تحليل مبسط:
السؤال الجوهري: هل الارتفاع في أصول البنك حقيقي ويترجم إلى زيادة في السيولة الفعلية (الأموال النقدية المتاحة للبنك)، أم أنه مجرد رفع لقيمة الأصول على الورق عبر التمويل الحكومي وإعادة تقييم الأصول؟
بمعنى آخر، هل النظام المصرفي يبدو قويًا فعليًا، أم أن قوته شكلية فقط على الورق؟ وهل تعتمد القدرة الحقيقية للبنك على التمويل والاستجابة للأزمات و على استقرار سعر الصرف وإدارة الحكومة للعجز المالي؟
ثالثاً: المصارف التجارية والمتخصصة
• عدد المصارف: انخفض من 38 مصرفًا في 2022 إلى 32 مصرفًا في 2023 (-15.8%)، نتيجة توقف نشاط 6 مصارف أجنبية.
• الأصول المجمعة: ارتفعت من 5.33 تريليون جنيه إلى 8.74 تريليون جنيه (+63.9%).
أهم الملامح:
- ارتفاع الأرصدة لدى بنك السودان المركزي (+84.6%) والمصارف الأخرى (+354.7%).
- انخفاض النقد المحلي (الأموال المتداولة داخل البلاد) بنسبة (-24.8%).
- ودائع الجمهور (+89.4%) مقابل تراجع ودائع المراسلين بالخارج (-20.5%)، ما يشير إلى ثقة نسبية داخل السوق المحلي وضعف الثقة الدولية.
تحليل مبسط:
ارتفاع الأصول والودائع المحلية يعكس قدرة المصارف على البقاء صامدة، لكن الاعتماد على ودائع الداخل فقط يقلل من تنوع مصادر التمويل ويزيد من مخاطر السيولة في حالة تدهور الاقتصاد المحلي.
رابعاً: حركة الودائع المصرفية
• إجمالي الودائع: ارتفع من 3.22 تريليون جنيه إلى 3.71 تريليون جنيه (+14.9%).
• الودائع الادخارية: سجلت أكبر نمو (+95.6%)، بينما الودائع الاستثمارية انخفضت (-44.4%).
• خطابات الضمان والاعتمادات المستندية: هبطت (-90%) نتيجة لتوقف شبه تام للتجارة الخارجية.
تحليل مبسط:
زيادة الادخارات تعكس نزوح الأموال نحو الأمان المالي وزيادة في سداد المرتبات عبر النظام المصرفي وبقاؤها دون السحب ، بينما الانخفاض الحاد في الودائع الاستثمارية ووسائل التجارة الدولية يظهر تراجع النشاط الاقتصادي ويضعف قدرة المصارف على التوسع في تمويل الإنتاج والتجارة.
خامساً: التمويل المصرفي
• رصيد التمويل المصرفي: ارتفع من 1.81 تريليون جنيه إلى 2.42 تريليون جنيه (+33.8%).
القطاعات المستفيدة: - الاستيراد (+178.9%)
- التجارة المحلية (+170.8%)
- الصناعة (+23.6%)
القطاعات المتراجعة:
- الزراعة (-0.1%)
- التعدين (-17.6%)
- الحكومات الولائية والمحلية (-86.3%)
• التمويل للقطاعات ذات الأولوية (الزراعة، الصناعة، الصادرات، التعدين) شكل 49.9% فقط من الإجمالي.
تحليل مبسط:
التمويل يتركز في الاستيراد والتجارة على حساب الإنتاج المحلي والتنمية، ما يحد من قدرة الاقتصاد على التعافي ويزيد من الاعتماد على الواردات.
سادساً: مؤشرات السلامة المالية
وفقًا لمعايير لجنة بازل (Basel Committee on Banking Supervision):
• كفاية رأس المال (Capital Adequacy Ratio): نسبة قوة رأس مال البنك مقارنة بالقروض والمخاطر التي يتحملها. المصارف حافظت على مستويات أعلى من الحد الأدنى المطلوب (8% عالميًا و12% محليًا).
• جودة الأصول (Asset Quality): مدى سلامة القروض والاستثمارات. ارتفاع القروض المتعثرة يعني انخفاض الجودة.
• السيولة (Liquidity): قدرة البنك على الوفاء بالتزاماته قصيرة الأجل.
• الربحية (Profitability): قدرة البنك على تحقيق أرباح من عملياته.
تحليل مبسط:
التزام البنوك بمعايير بازل وكفاية رأس المال يعكس استجابة رقابية وليس بالضرورة قدرة التمويل الفعلي. ضعف رؤوس الأموال الفعلية يقيد قدرة البنوك على التمويل التنموي، لأن كفاية رأس المال هي مجرد نسبة حسابية (قسمة البسط على المقام)، ولا تعكس حجم السيولة أو القدرة على الاستثمار في المشاريع الاقتصادية.
سابعاً: المؤسسات المالية غير المصرفية
• تأثرت أكثر من المصارف بسبب تمركزها في الخرطوم.
• شركات الصرافة والتحاويل المالية تراجعت بشدة، ما ضيق قنوات النقد الأجنبي (العملات الأجنبية اللازمة للتجارة).
• أسواق المال والتأمين وصناديق الضمان توقفت تقريبًا.
تحليل مبسط:
ضعف المؤسسات غير المصرفية يحد من قدرة النظام المالي على دعم التجارة والاستثمار، ويزيد الاعتماد على المصارف فقط.
ثامناً: تقدير الخسائر الفعلية للبنوك بعد الحرب
على الرغم من ارتفاع الأصول على الورق، تكبد النظام المصرفي خسائر ملموسة تشمل: - توقف الفروع (8 للبنك المركزي و6 مصارف أجنبية) وفقدان الإيرادات التشغيلية.
- النهب والسرقة للنقود بالعملة المحلية والاجنبية وحرق المباني والأصول الثابتة، ما أدى إلى خسائر مباشرة في الأموال والمعدات والمستندات.
- ارتفاع نسب القروض المتعثرة.
- انخفاض السيولة النقدية والودائع الدولية.
تحليل مبسط:
غياب البيانات الدقيقة حول الخسائر يعقد تقييم قدرة البنوك على تمويل الاقتصاد وإدارة المخاطر. يعتمد استقرار النظام المصرفي الآن على إعادة بناء البنية التحتية، استعادة السيولة الفعلية، وإدارة القروض المتعثرة بفعالية، إلى جانب استعادة الثقة المحلية والدولية.
تاسعاً: رؤوس أموال البنوك وقدرتها على التمويل بعد الحرب
• ارتفاع رؤوس الأموال: حقيقة أم شكلية؟
ارتفعت رؤوس أموال البنوك من 601.4 مليار جنيه في 2022 إلى 1.04 تريليون جنيه في 2023 (+73.3%). التساؤل الجوهري: هل هذا ناتج عن سيولة فعلية (رأسمال جديد أو أرباح محتجزة)، أم مجرد إعادة تقييم للأصول بعد تدهور الجنيه؟
• أثر ضعف رأس المال على القدرة التمويلية:
إذا كانت الزيادة شكلية، فإنها لا تضيف سيولة للبنوك، ما يحد من قدرتها على تمويل الاقتصاد وتحمل الالتزامات بالنقد الأجنبي، خاصة مع تأثيره المباشر على نسبة كفاية رأس المال في ظل انفراط سعر الصرف.
• ضرورة زيادة رأس المال الفعلية:
لضمان دور فعال للبنوك بعد الحرب، يجب ضخ رأسمال جديد أو استخدام الأرباح المحتجزة لتعزيز القدرة التمويلية.
• دمج البنوك لتعزيز القوة المالية:
يمكن النظر في دمج بعض البنوك لتقليل الأعباء التشغيلية، تعزيز القوة المالية، وتحسين القدرة على تمويل مشاريع التنمية الاقتصادية.
عاشراً: تشجيع البنوك الأجنبية على العودة
• البنوك الأجنبية عنصر مهم لتنويع مصادر التمويل وجذب النقد الأجنبي، وتعزيز الثقة الدولية.
• بعد توقف نشاط 6 مصارف أجنبية، هناك حاجة لإعادة جذب هذه المؤسسات عبر:
- حوافز استثمارية وتشريعات مرنة لحماية رأس المال والمكاسب.
- تسهيل إجراءات التشغيل في الولايات الآمنة.
الفوائد المتوقعة: - زيادة السيولة بالدولار والعملات الأجنبية، مما يعزز التمويل التجاري والاستثماري.
- نقل أفضل الممارسات المصرفية الدولية، وتحسين إدارة المخاطر والحوكمة.
- دعم التجارة الخارجية وتشجيع الاستثمار المباشر، مما يحفز النمو المستدام.
تحليل مبسط:
استقطاب البنوك الأجنبية يمثل تعزيزاً عملياً للقوة التمويلية للبنوك المحلية، ويساهم في استقرار سعر الصرف، وزيادة قدرة النظام المالي على تمويل التنمية الاقتصادية بعد الحرب.
ملخص عام
• النظام المصرفي السوداني أظهر مرونة نسبية من خلال استمرار العمل في الفروع الآمنة، لكن خسارة 6 مصارف أجنبية وتوقف 8 فروع للبنك المركزي شكل صدمة كبيرة.
• ارتفاع الأصول والودائع على الورق قد لا يعكس القوة الحقيقية، إذ يعتمد بشكل كبير على التمويل الحكومي وإعادة تقييم الأصول.
• السيولة الفعلية للقطاع المصرفي محدودة، والاستثمار الإنتاجي تراجع، ما يقلل القدرة التنموية للبنوك.
• مؤشرات السلامة المالية (كفاية رأس المال، جودة الأصول، السيولة، الربحية) تعكس استجابة رقابية أكثر من تعكس قدرة تمويلية فعلية.
• البنوك بحاجة لزيادة رأس المال الفعلية، دمج بعض البنوك، واستقطاب البنوك الأجنبية لتعزيز القوة المالية، استعادة الثقة الدولية، وتمويل التنمية الاقتصادية بعد الحرب.
• تقدير الخسائر الناتجة عن النهب والسرقة وحرق المباني وفقدان الفروع يوضح هشاشة النظام المالي ويجعل إعادة بناء البنية التحتية واستعادة السيولة أولوية.