استهدفت عناصر من مليشيا آل دقلو في فجرٍ كسِر سكونه بندقيات بربرية، مسجداً مكتظًّا بالمصلين أثناء صلاة الفجر — جريمةٌ ترتدي على وجهها قناعًا من الوحشية وترسم خريطةً جديدةً لانحرافٍ خطير في أهداف هذه المليشيا. إذ لم تعد الحرب عندهم مواجهة خصمٍ عسكريٍّ أو تحقيقَ غايةٍ معلنةٍ، بل تحوّلت إلى حملاتٍ انتقامٍ عشوائية تستهدف أضعف الناس وأطهر عمار المساجد والمواطن البريء الذي لم يطلب إلا سلام يومه وطمأنينة لغدِ أولاده.
هؤلاء الذين ارتدّوا ثوب القتال ونسبوا لأنفسهم شرعية العنف، هم في الواقع امتداد لقوةٍ يُدان لها تاريخياً بسجلّ من الانتهاكات والعنف المسلّح داخل البلاد، ما جعلهم هدفًا لعقوبات دولية واتهامات واسعة بنهب الموارد وترويع المدنيين.
ما حدث صباح اليوم في الفاشر ليس حدثًا معزولًا ولا هو مجرد فعل عبثي إنه أحد حلقات مسلسلٍ طويلٍ من التحول المعيب في بوصلة الحرب من مقاتل إلى جلاد، ومن هدفٍ عسكريٍّ إلى مقتنصٍ لدماء المارين والمسالمين. وإنْ كان للنصر مسارٌ على أرض الميدان، فإنّ منطق الانتقام من المدنيين لا يغيّر إلا شيئًا واحدًا أن يقوّض شرعية من يقاتل، ويثبت أمام العالم أنّ من يستخدم الإرهاب الأعمى هو الذي يخسر أخلاقه أولًا ثم أهدافه بعد ذلك.
فكلما ضاقت الدائرة على هذه المليشيا أو تَمكّن الجيش من كسر شوكتها، اتجهت رِدّاً إلى المدنيّين، كأنّهم مرآةٌ لضعفها. لكن التاريخ والأقدار – كما يعلم من يؤمن بالله – لا ترجع للظالمين سندًا دائمًا فالظلم ظلمات يوم القيامة وفي الدنيا له أثرٌ واضح في تقهقر من يرتكبه. فكلما ارتكبت المليشيا جريمةً بحق مواطنٍ، تأكد للقلوب أنّ العدالة على الطريق، وأنّ ثمن هذا الظلم سيُؤخذ بحكمٍ إلهيٍّ وبتصميم أهل الحقّ على استعادة الأمان.
لذلك يحتاج خطابنا في هذه اللحظات إلى مرونةٍ لغويةٍ وصلابةٍ أخلاقية نُدين الاستهداف بقوةٍ، وننادِي بمحاسبةٍ صارمةٍ لكل من تورّط في هذه الجريمة، ونطالب بحمايةٍ فوريةٍ للمساجد والأماكن العامة، وبإجراءات تُحَمِل المجتمع الدولي ودوائر العدالة المحلية مسؤولياتها في وقف هذا المسلسل من الانتقام المختَلِف المصائر.
ولنا في كلمات الدين نبراس ومندوحة لا يرضى الله بظلم عباده، والناس جميعًا مؤتَمَنون على دماء بعضهم لذا فاستمرار هذه الجرائم لن يُحجب عن المشهد العام إلا المزيد من الخزي للمعتدين، ولن يثني عن عزم من يُقاتل لرفع الظلم وإنهاء الفتنة. إنّ دماء الشهداء صباح اليوم ليست عدد يُسجل في الصفحات إنما هي نداءٌ صارخٌ لتوحيد الصفوف وإرجاع الدولة إلى واجبتها الأساسية بحماية المدنيين وإرساء حكم القانون.
فلنجعل من صرخات المساجد المصابة صباح هذا اليوم منبهاً للضمير الإنساني، ومنبرًا للوحدة الوطنية، لا ذريعةً للانقسام. ولتكن هذه الصفحات شاهدةً على أن الحق والحقائق ستنتصر في نهاية المطاف، وأنّ بقاء الوطن وكرامة مواطنيه لا يتحققان إلا بقطع دابر العصيان المسلّح ومحاسبة الجناة أمام محاكم عادلة ومساءلة تقضي على مناخ الإفلات من العقاب.
رحم الله الشهداء، وألهم ذويهم الصبر والسلوان، وأسكنَ المصابين شفاءً عاجلاً، وحفظ السودان من كلّ فتنةٍ ومكروه.