الثلاثاء, سبتمبر 16, 2025
الرئيسيةمقالاتالذهب بين غطاء الجنيه وأزمة التضخم الركودي ...

الذهب بين غطاء الجنيه وأزمة التضخم الركودي بقلم: أبوعبيده أحمد سعيد | saeed.abuobida5@gmail.com


البداية: الجنيه والذهب كعقد ثقة
في بدايات التاريخ النقدي للسودان، ارتبط الجنيه بالذهب كغطاء حقيقي للقيمة. ففي الرابع من أبريل 1957، نشرت وزارة المالية والاقتصاد عبر جريدة الرأي العام تعريفًا رسميًا للجنيه السوداني:
“الجنيه عقد بين لجنة العملة السودانية وبقية العالم، بموجبه يمتلك قوة شرائية تساوي 2.55187 جرامًا من الذهب الخالص.”
لم يكن بنك السودان قد تأسس بعد، وكانت إدارة العملة بيد لجنة العملة داخل وزارة المالية. هذا الارتباط المباشر بالذهب منح الجنيه قوة وثقة، وضمن انضباطًا ماليًا صارمًا: لا يُطبع أي جنيه إلا بغطاء من الذهب أو الرقابة.
وبلغة الأرقام الحديثة، فإن الجنيه السوداني في عام 1957، والذي كان يساوي 2.55187 جرامًا من الذهب، يعادل اليوم حوالي 303 دولار أمريكي، أي ما يقارب 1,136 ريال سعودي. هذه المفارقة التاريخية تبرز كيف كان الجنيه في يوم من الأيام أقوى من الدولار بمئات المرات، بينما يواجه اليوم انهيارًا متسارعًا في قيمته.
الواقع المعكوس: إنتاج بلا غطاء
اليوم، ورغم أن السودان من أكبر منتجي الذهب في إفريقيا، إلا أن هذا المعدن الثمين لم يعد غطاءً للجنيه ولا سندًا للتجارة الخارجية. أغلب الإنتاج يُصدر كخام أو يُهرب، فيما تستمر الحكومة في طباعة النقود بلا غطاء لتغطية العجز وتمويل الإنفاق.
النتيجة:
• تضخم متسارع.
• ضعف الإنتاج المحلي.
• ارتفاع الأسعار رغم ركود اقتصادي خانق.
هذه هي صورة التضخم الركودي: ارتفاع الأسعار مع تراجع الإنتاج وتدهور النمو الاقتصادي، بينما يفقد الجنيه قيمته يومًا بعد يوم لغياب أي غطاء حقيقي.
صادرات الذهب: أرقام ودلالات
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن صادرات الذهب في الربع الأول من 2025 بلغت 449.5 مليون دولار، أي نحو 150 مليون دولار شهريًا. المثير أن 88% من هذه الصادرات كانت للإمارات.
لكن مع توقف السوق الإماراتي، فقد السودان منفذه الرئيسي للعملة الصعبة، فانقطع تدفق الدولار وتسارعت وتيرة انهيار الجنيه. هذا الاعتماد الأحادي كشف هشاشة سياسة التصدير وغياب التنويع.
تجارب إفريقية ملهمة
أخطاء السودان في إدارة الذهب ليست قدرًا محتومًا، فقد سبقتنا دول قريبة ونجحت عبر سياسات أكثر رشادة:

  1. تنزانيا:
    تنويع الأسواق وربط دور البنك المركزي بالرقابة فقط، دون تدخل مباشر في التصدير. النتيجة: استقرار عوائد الذهب ودعم العملة المحلية.
  2. إثيوبيا:
    ربط صادرات المعادن بالبورصات العالمية للحد من التهريب وضمان أسعار عادلة، مع تعزيز الاحتياطيات النقدية دون تحويل البنك المركزي إلى تاجر.
  3. غانا:
    مشاركة شفافة للقطاع الخاص، فرض رسوم محددة على الصادرات، وتجريم التهريب. النتيجة: تدفقات نقدية مستقرة ودعم مباشر للعملة.
    الدروس المستفادة واضحة: الاحتكار يقود للأزمة، بينما التنويع والشفافية والرقابة الفاعلة تقود للاستقرار.
    منشور بنك السودان 14/2025: احتكار مثير للجدل
    في 14 سبتمبر 2025، أصدر بنك السودان منشورًا يقضي باحتكاره تصدير الذهب. هذه السياسة أثارت تساؤلات جوهرية:
    • كيف للبنك، وهو صانع السياسة النقدية، أن يتحول إلى لاعب تجاري ينافس المنتجين والمصدرين؟
    • كيف تتحقق الشفافية إذا كان البنك هو الرقيب واللاعب في آن واحد؟
    الأغرب أن البنك نفسه يسمح للمنتجين بتصدير الذهب بغرض التصنيع الخارجي ثم إعادته بعد المعالجة، شرط تقديم ضمانات مثل خطابات ضمان أو شيكات مصرفية. إذا كانت هذه الآلية تنجح في ضمان عودة الذهب بعد التصنيع، فلماذا لا تطبق على التصدير المباشر لجلب عوائد الصادر؟
    هذا التناقض يكشف خللًا في المنطق الاقتصادي وازدواجية في السياسات.
    الحاجة إلى إصلاحات عاجلة
    لتجنب استمرار الأزمة، يجب إعادة النظر جذريًا في سياسات التصدير عبر:
  4. فك احتكار البنك المركزي والسماح للقطاع الخاص المؤهل بالتصدير وفق ضوابط شفافة.
  5. تخفيض الضرائب والرسوم لتشجيع الإنتاج الرسمي ومحاربة التهريب.
  6. تنويع الأسواق وعدم الارتهان لسوق واحد مثل الإمارات.
  7. تفعيل بورصة الذهب السودانية وربطها بالأسواق العالمية.
  8. تنظيم المصدرين بشروط تحد من فقدان العوائد أو تهريب الحصائل.
    أسواق بديلة ممكنة
    • إقليميًا: تركيا، مصر، جنوب أفريقيا.
    • آسيويًا: الهند، الصين، أكبر مستهلكي الذهب عالميًا.
    • عبر البورصات: لندن، شنغهاي، أو المزايدات الدولية المباشرة.
    التنويع يضمن استقرار تدفق العملات الصعبة ويقلل من المخاطر الجيوسياسية.
    الخاتمة: الذهب بين الماضي والمستقبل
    كان الذهب في 1957 غطاءً للجنيه، يمنحه قوة وثقة دولية. أما اليوم فقد أصبح مصدرًا للتهريب والاحتكار وفقدان الشفافية.
    السودان يقف عند مفترق طرق:
    • إما الاستمرار في سياسات عقيمة تُكرس التضخم الركودي.
    • أو تبني إصلاحات جريئة تجعل من الذهب غطاءً حقيقيًا للجنيه ورافعة للاقتصاد.
    التاريخ وتجارب الجوار تثبت أن الثروة وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى إدارة رشيدة وشفافية حقيقية. عندها فقط يمكن للذهب أن يتحول من عبءٍ إلى ركيزة تدعم استقرار العملة وتعيد الثقة إلى الاقتصاد السوداني.

الذهب بين غطاء الجنيه وأزمة التضخم الركودي
بقلم: أبوعبيده أحمد سعيد | saeed.abuobida5@gmail.com
البداية: الجنيه والذهب كعقد ثقة
في بدايات التاريخ النقدي للسودان، ارتبط الجنيه بالذهب كغطاء حقيقي للقيمة. ففي الرابع من أبريل 1957، نشرت وزارة المالية والاقتصاد عبر جريدة الرأي العام تعريفًا رسميًا للجنيه السوداني:
“الجنيه عقد بين لجنة العملة السودانية وبقية العالم، بموجبه يمتلك قوة شرائية تساوي 2.55187 جرامًا من الذهب الخالص.”
لم يكن بنك السودان قد تأسس بعد، وكانت إدارة العملة بيد لجنة العملة داخل وزارة المالية. هذا الارتباط المباشر بالذهب منح الجنيه قوة وثقة، وضمن انضباطًا ماليًا صارمًا: لا يُطبع أي جنيه إلا بغطاء من الذهب أو الرقابة.
وبلغة الأرقام الحديثة، فإن الجنيه السوداني في عام 1957، والذي كان يساوي 2.55187 جرامًا من الذهب، يعادل اليوم حوالي 303 دولار أمريكي، أي ما يقارب 1,136 ريال سعودي. هذه المفارقة التاريخية تبرز كيف كان الجنيه في يوم من الأيام أقوى من الدولار بمئات المرات، بينما يواجه اليوم انهيارًا متسارعًا في قيمته.
الواقع المعكوس: إنتاج بلا غطاء
اليوم، ورغم أن السودان من أكبر منتجي الذهب في إفريقيا، إلا أن هذا المعدن الثمين لم يعد غطاءً للجنيه ولا سندًا للتجارة الخارجية. أغلب الإنتاج يُصدر كخام أو يُهرب، فيما تستمر الحكومة في طباعة النقود بلا غطاء لتغطية العجز وتمويل الإنفاق.
النتيجة:
• تضخم متسارع.
• ضعف الإنتاج المحلي.
• ارتفاع الأسعار رغم ركود اقتصادي خانق.
هذه هي صورة التضخم الركودي: ارتفاع الأسعار مع تراجع الإنتاج وتدهور النمو الاقتصادي، بينما يفقد الجنيه قيمته يومًا بعد يوم لغياب أي غطاء حقيقي.
صادرات الذهب: أرقام ودلالات
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن صادرات الذهب في الربع الأول من 2025 بلغت 449.5 مليون دولار، أي نحو 150 مليون دولار شهريًا. المثير أن 88% من هذه الصادرات كانت للإمارات.
لكن مع توقف السوق الإماراتي، فقد السودان منفذه الرئيسي للعملة الصعبة، فانقطع تدفق الدولار وتسارعت وتيرة انهيار الجنيه. هذا الاعتماد الأحادي كشف هشاشة سياسة التصدير وغياب التنويع.
تجارب إفريقية ملهمة
أخطاء السودان في إدارة الذهب ليست قدرًا محتومًا، فقد سبقتنا دول قريبة ونجحت عبر سياسات أكثر رشادة:

  1. تنزانيا:
    تنويع الأسواق وربط دور البنك المركزي بالرقابة فقط، دون تدخل مباشر في التصدير. النتيجة: استقرار عوائد الذهب ودعم العملة المحلية.
  2. إثيوبيا:
    ربط صادرات المعادن بالبورصات العالمية للحد من التهريب وضمان أسعار عادلة، مع تعزيز الاحتياطيات النقدية دون تحويل البنك المركزي إلى تاجر.
  3. غانا:
    مشاركة شفافة للقطاع الخاص، فرض رسوم محددة على الصادرات، وتجريم التهريب. النتيجة: تدفقات نقدية مستقرة ودعم مباشر للعملة.
    الدروس المستفادة واضحة: الاحتكار يقود للأزمة، بينما التنويع والشفافية والرقابة الفاعلة تقود للاستقرار.
    منشور بنك السودان 14/2025: احتكار مثير للجدل
    في 14 سبتمبر 2025، أصدر بنك السودان منشورًا يقضي باحتكاره تصدير الذهب. هذه السياسة أثارت تساؤلات جوهرية:
    • كيف للبنك، وهو صانع السياسة النقدية، أن يتحول إلى لاعب تجاري ينافس المنتجين والمصدرين؟
    • كيف تتحقق الشفافية إذا كان البنك هو الرقيب واللاعب في آن واحد؟
    الأغرب أن البنك نفسه يسمح للمنتجين بتصدير الذهب بغرض التصنيع الخارجي ثم إعادته بعد المعالجة، شرط تقديم ضمانات مثل خطابات ضمان أو شيكات مصرفية. إذا كانت هذه الآلية تنجح في ضمان عودة الذهب بعد التصنيع، فلماذا لا تطبق على التصدير المباشر لجلب عوائد الصادر؟
    هذا التناقض يكشف خللًا في المنطق الاقتصادي وازدواجية في السياسات.
    الحاجة إلى إصلاحات عاجلة
    لتجنب استمرار الأزمة، يجب إعادة النظر جذريًا في سياسات التصدير عبر:
  4. فك احتكار البنك المركزي والسماح للقطاع الخاص المؤهل بالتصدير وفق ضوابط شفافة.
  5. تخفيض الضرائب والرسوم لتشجيع الإنتاج الرسمي ومحاربة التهريب.
  6. تنويع الأسواق وعدم الارتهان لسوق واحد مثل الإمارات.
  7. تفعيل بورصة الذهب السودانية وربطها بالأسواق العالمية.
  8. تنظيم المصدرين بشروط تحد من فقدان العوائد أو تهريب الحصائل.
    أسواق بديلة ممكنة
    • إقليميًا: تركيا، مصر، جنوب أفريقيا.
    • آسيويًا: الهند، الصين، أكبر مستهلكي الذهب عالميًا.
    • عبر البورصات: لندن، شنغهاي، أو المزايدات الدولية المباشرة.
    التنويع يضمن استقرار تدفق العملات الصعبة ويقلل من المخاطر الجيوسياسية.
    الخاتمة: الذهب بين الماضي والمستقبل
    كان الذهب في 1957 غطاءً للجنيه، يمنحه قوة وثقة دولية. أما اليوم فقد أصبح مصدرًا للتهريب والاحتكار وفقدان الشفافية.
    السودان يقف عند مفترق طرق:
    • إما الاستمرار في سياسات عقيمة تُكرس التضخم الركودي.
    • أو تبني إصلاحات جريئة تجعل من الذهب غطاءً حقيقيًا للجنيه ورافعة للاقتصاد.
    التاريخ وتجارب الجوار تثبت أن الثروة وحدها لا تكفي، بل تحتاج إلى إدارة رشيدة وشفافية حقيقية. عندها فقط يمكن للذهب أن يتحول من عبءٍ إلى ركيزة تدعم استقرار العملة وتعيد الثقة إلى الاقتصاد السوداني.
مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات