يعد قطاع التعدين من الركائز الاقتصادية الحيوية في الدول النامية، لما يحمله من إمكانات استثمارية ضخمة وفرص تنموية متعددة. ومع ذلك، فإن النموذج التقليدي القائم على منح الامتيازات لعدد كبير من الشركات، كما هو الحال في السودان التي تجاوز فيها عدد شركات الامتياز 162 شركة، يثير تساؤلات جوهرية حول الجدوى الاقتصادية، والعدالة في توزيع الموارد، ومدى تحقيق الأثر المجتمعي المنشود.
إشكالية تعدد الامتيازات وضعف العائد التنموي
إن منح هذا العدد الكبير من الامتيازات دون اشتراطات مالية صارمة أو معايير تشغيلية واضحة، يؤدي إلى:
- تشتيت رأس المال الوطني والأجنبي، مما يضعف القدرة على تنفيذ مشاريع ضخمة ذات أثر تنموي ملموس.
- غياب المسؤولية المجتمعية الفاعلة، نتيجة ضعف الملاءة المالية لبعض الشركات وعدم قدرتها على الاستثمار في البنية التحتية أو الخدمات المجتمعية.
- تآكل الأصول الوطنية، حيث تبقى المعدات الثقيلة والمرافق التشغيلية ملكا للشركات، دون ضمانات لعودتها إلى الدولة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى تقليص عدد الشركات العاملة في القطاع، مع اشتراط حد أدنى لرأس المال المستثمر لا يقل عن 150–200 مليون دولار، بحسب المساحات الممنوحة، لضمان جدية الاستثمار وقدرته على تحقيق الأثر المطلوب.
نظام BOT: نموذج بديل لتحقيق السيادة والتنمية
نظام البناء والتشغيل ثم النقل (BOT) يمثل نموذجا أكثر توازنا، حيث تتولى الشركات تمويل وإنشاء وتشغيل المشاريع لفترة محددة، ثم تنقل ملكية الأصول إلى الدولة. ورغم ندرة تطبيق هذا النموذج في قطاع التعدين، إلا أن هناك تجارب دولية ناجحة يمكن الاستفادة منها:
أولًا: شركة Freeport-McMoRan ومنجم Grasberg – إندونيسيا
- شركة PT Freeport Indonesia (PTFI)، التابعة لـ Freeport-McMoRan، بدأت عملياتها في إندونيسيا منذ عام 1972، واكتشفت منجم Grasberg في 1988، الذي يُعد من أكبر مناجم النحاس والذهب في العالم.
- في عام 2018، تم توقيع اتفاقية استراتيجية بين الحكومة الإندونيسية وFreeport، نصت على نقل ملكية 51.2% من أسهم PTFI إلى شركة حكومية إندونيسية (Inalum)، مما يمثل تحولًا تدريجيًا نحو ملكية وطنية.
- الشركة تولت التمويل الكامل للبنية التحتية والتشغيل، بما في ذلك تطوير المناجم السطحية وتحت الأرض، مثل Grasberg Block Cave وDMLZ، وهي مشاريع ضخمة تتطلب استثمارات طويلة الأجل.
النموذج أقرب إلى (BOT المعدل)، حيث تم التشغيل والتمويل من قبل الشركة، مع نقل تدريجي للملكية، لكن دون إطار قانوني BOT صريح.
ثانيا: شركة Rio Tinto ومنجم Oyu Tolgoi – منغوليا
- منجم Oyu Tolgoi يعد من أكبر مناجم النحاس والذهب عالميا، ويقع في صحراء غوبي. بدأ التعدين السطحي فيه عام 2011، وبدأ الإنتاج من المناجم تحت الأرض في 2022.
- المشروع يدار من قبل شركة Oyu Tolgoi LLC، المملوكة بنسبة 66% لـ Rio Tinto و34% لحكومة منغوليا، مما يُشكل شراكة شبه سيادية.
- Rio Tinto تولت التمويل الكامل للبنية التحتية تحت الأرض، بما في ذلك حفر أكثر من 100 كم من الأنفاق، وإنشاء أنظمة نقل ومعالجة ضخمة.
- رغم عدم تصنيفه رسميا كنموذج BOT، إلا أن المشروع يتضمن:
- تمويل خاص للبنية التحتية
- تشغيل طويل الأمد
- ملكية جزئية للحكومة
- نقل تدريجي للخبرات والقدرات المحلية
النموذج يحمل عناصر BOT، لكنه يدار ضمن إطار استثماري مشترك وليس عقد امتياز BOT تقليدي.
ثالثًا: مشروع Simandou – غينيا
- مشروع Simandou يعد أكبر مشروع تعدين متكامل في إفريقيا، ويشمل تطوير مناجم الحديد والبنية التحتية المرتبطة (سكك حديد، ميناء).
- الكتل 3 و4 تدار من قبل شركة SimFer S.A.، وهي شراكة بين حكومة غينيا وRio Tinto وChinalco (عبر Chalco Iron Ore Holdings).
- في عام 2014، تم توقيع اتفاقية BOT رسمية بين الحكومة الغينية وSimFer، تنص على:
- تولي الشركات الصينية بناء وتشغيل البنية التحتية (السكك الحديدية والميناء)
- نقل ملكية الأصول إلى الدولة بعد فترة تشغيل محددة
- الاتفاقية تشمل بنودا واضحة حول حقوق الدولة، الضرائب، التوظيف المحلي، وضمانات بيئية، مما يُعزز النموذج الكلاسيكي لـ BOT.
النموذج يعد تطبيقا رسميا لنظام BOT في التعدين والبنية التحتية، وهو من أوضح الأمثلة عالميا.
توصيات استراتيجية
لتفعيل نموذج BOT في قطاع التعدين، ينبغي بما يلي:
- تقنين عدد شركات الامتياز، وربط منح التراخيص بحد أدنى لرأس المال والاستثمار المجتمعي.
- تبني إطار قانوني واضح لنظام BOT، يضمن حقوق الدولة ويحدد آليات نقل الملكية.
- إلزام الشركات بتحويل الأصول للدولة خلال فترة تشغيل لا تتجاوز 8–10 سنوات.
- تعزيز الشفافية والمساءلة في العقود، بما يضمن العدالة والاستفادة القصوى من الموارد الوطنية.
ختاما إن التحول من نموذج الامتيازات المفتوحة إلى نظام BOT يمثل خطوة استراتيجية نحو تحقيق السيادة الاقتصادية، وتعزيز التنمية المستدامة، وضمان استفادة الدولة من ثرواتها المعدنية. ولتحقيق ذلك، لا بد من إرادة سياسية واضحة، وإصلاحات مؤسسية جادة، وإطار قانوني صارم يضمن التوازن بين جذب الاستثمار وحماية المصالح الوطنية.