الأسئلة المطروحة في الساحة السياسية في البلاد، لا تتوافق مع مجريات الأحداث على الأرض، و حتى الشعارات السياسية المرفوعة تجدها متخلفة و غير مواكبة للأحداث، الأمر الذي يؤكد أن العقل السياسي فشل أن يلحق بالأحداث.. أن التطورات التي حدثت في ميدان القتال كان من المفترض أن تصحبها تطورات سياسية تتناغم معها، و كان على القوى السياسية أن تراجع دورها و موقعها وسط الجماهير ، و لكنها عجزت عن فعل ذلك و استعاضت عنه بشعارات و وعود مؤجلة لما بعد الحرب.. هذا التقاعس عن الفعل كان لابد أن يترك فراغا سياسيا كبير.. مع تكرار القوى السياسية لشعارات تنادي بخروج الجيش عن الساحة السياسية.. هل كانت هناك استجابة؟ و ما هو الذي حدث بالفعل؟
أن المسار السياسي الذي كان يجب أن تملأه القوى السياسية و عجزت عن ذلك.. استطاع رئيس مجلس السيادة و القائد العام للجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان و نوايه و القيادات العسكرية التي معه أن يملأوها، عندما بدأوا يتحركوا في المناطق الأمنة التي خرجت منها الميليشيا، و أصبحت خارج دائرة المعارك الحربية في العاصمة القومية و في ولاية سنار و ولاية الجزيرة و لاية النيل الأبيض و حتى في كردفان إلي جانب ولايات الشرق و الشمالية و نهر النيل.. الأمر الذي يؤكد أن هذا التجوال له أهداف سياسية أن تربط القطاع الجماهيري بالتطورات العسكرية التي تحدث على الأرض.. و هي تعزز شيئين.. الأول أن تربط القاعدة الشعبية و الاجتماعية بالحرب و تزويد الجيش بالمقاتلين الذين يحتاج إليهم.. الثاني أن تخلق واقعا سياسيا جديدا يتناغم مع تطورات المعارك، و في نفس الوقت أن يغيير الشعارات القديمة غير المواكبة بشعارات جديدة تتماشى مع الأهداف الجديدة..
إذا نظرنا إلي الجانب الأخر للمشهد؛ نجد أن المقاومة الشعبية بدأت تنظم نفسها من خلال المؤتمر الذي كانت قد عقدته في سنكا بالشرق في الأسبوع الثاني من الشهر الماضي، و انتخبت لجنتها التنفيذية، و الهدف هو؛ أن يكون لها دورا مؤثرا في مستقبل العملية السياسية في البلاد خاصة بعد الحرب.. نتائج هذا الحراك أن ترتبط الجماهير بحركة الواقع و افرازاته، من خلال التفاعل بينها و بين القيادات التي تزورها في مناطقها و تتفاعل معها، و ليس مع رسائل هلامية لا تمس التطورات و التغييرات التي تحدث على أرض الواقع.. أن الزيارات التي يقوم بها البرهان للمناطق المختلفة في السودان قاصدا التجعات الشعبية المختلفة هي فعل سياسي من الدرجة الأولى و له أثرا كبيرا في المستقبل..
أن الأحزاب السياسية المنقسمة بعض منها ذهب مؤيدا للميليشيا و مشاركا في كل مخططاتها التي ترسمها لها الأجندة الخارجية.. و هؤلاء يصبح دورهم السياسي مرتبط بنتائج الحرب و بقاء الميليشيا أو غيابها عن الساحة السياسية.. و هناك فئة أخرى تعتقد إنها نقيف بعيدا عن دائرة الحرب و تأثيراتها، هؤلاء إذا أرادوا الاستمرارية عليهم تغيير قياداتهم التي عجزت عن إدارة العمل السياسي الذي يجعلها جزءا من الأحداث.. و هناك قوى سياسية مؤيدة للجيش و لكنها قوى سياسية خاملة تنفذ فقط المطلوب منها و ستظل بعد الحرب على هامش العملية السياسية.. الأمر الذي يؤكد أن الحرب سوف تفرز قيادات جديدة..
يبقى السؤال الذي يدور في ذهن البعض: هل الجيش سوف يخرج من السياسة بعد إنتهاء الحرب أم سيكون جزءا منها؟
أن دور الجيش بعد الحرب: مرتبط بالقضية الأمنية و الاستقرار و المحافظة على كيان الدولة و سيادتها و إنهاء كل المهددات.. و هذه تتطلب أن يقوم بدور السيادة حتى القضاء على كل المهددات.. بما يسمح أن تجري العملية السياسية في بيئة صالحة بعيدا عن النزاعات الداخلية بين المجتمعات داخل مناطق السودان، و تنظيم عمل مؤسسات الدولة خاصة التي تعين المواطنين أن يتحركوا بسلام و أمن و يشاركوا في الإنتاج الزراعي و الرعوي و الصناعي في مناطق السودان المختلفة.. و أيضا إنتاج ثقافة سياسية جديدة تعزز من التربية الوطنية و خلق الوجدان المشترك الواحد.. و لابد من إيجاد الحرية ألتي تسمح للأجيال الجديدة التفكير خارج الصندوق، و تجاوز الإرث الثقافي السياسي الذي أدى للفشل لأكثر من منصف قرن.. أ
أن الحرب يجب أن تكون نهاية بين فترتين في السودان، و تبدأ معها مرحلة جديدة تتجاوز بها كل البناءت القديمة التي أصابها العقم، و فشلت في إنتاج المعرفة و الأفكار التي تساعد على التغيير و البناء و النهضة.. أن الأحزاب السياسية إما أن تحدث تطورا في تنظيمها و أفكارها و تجديد قياداتها تسمح لها بإعادة تمظهرها بثوب جديد يتلاءم مع المرحلة أو أن تبرز أحزاب جديدة تستوعب قطاعات واسعة من الأجيال الجديدة.. التي تستطيع أن ترسي قيما سياسية جديدة عبر الحوار الفكري الذي يفضي لإيجاد فرص إيجابية لتعزيز التوافق الوطني، و تعيد حياكة النسيج الاجتماعي لدعم عملية السلام و ثقافتها في المجتمع..
أن الذين يعتقدون؛ أن الجيش ينسحب من العملية السياسية لكي تقدم إلي المدنيين على طبق من ذهب هؤلاء حالمون..! لآن الجيش مؤسسة عسكرية يقع عليها عبء الحفاظ على الوطن و سيادته، و أيضا ملأ الفراغات التي تخلفها القوى السياسية عندما تبطء عجلتها في الحركة، فالحربة الدائرة هل شاهدتم زعيما سياسيا يطوف على الأقاليم التي حررت من قبضة الميليشيا لكي يعرفوا أثر الحرب عليهم، و يعزوهم على فقدهم من الأرواح.. أن القيادات السياسية أغلبيتهم خروجوا خارج البلاد، و تركوا بقية الشعب يواجه مصيره.. لذلك البرهان و القيادات العسكرية و مالك عقار يقومون بهذه الزيارات على المناطق المختلفة يملأون الفراغ الذي خلفته القيادات السياسية.. و هذه له أثر في مستقبل العملية السياسية إذا رضيت القوى السياسة أو لم ترتض.. المسألة لا تحتاج لعواطف و شعارات جوفاء لا تحرك سبيبة في شعر المرء، بل تحتاج لقراءة متأنية للواقع و التغييرات التي تحدث فيه، و تصورات الأجيال الجديدة و دورها في الحرب و بعد الحرب.. نسأل الله حسن البصيرة..