الخميس, سبتمبر 4, 2025
الرئيسيةمقالاتمدينة صناعية معدنية في السودان: بين الطموح والتحديات ...

مدينة صناعية معدنية في السودان: بين الطموح والتحديات بقلم : أبوعبيده أحمد سعيد محمد saeed.abuobida5@gmail.com


تسعى وزارة المعادن السودانية، عبر اتفاق مع الشركة المصرية السودانية للتنمية والاستثمارات المتعددة، إلى إنشاء مدينة متكاملة للصناعات المعدنية في السودان. ورغم أن الفكرة تحمل في طياتها فرصاً كبيرة لتطوير قطاع التعدين وزيادة القيمة المضافة للموارد الطبيعية، إلا أن الواقع الاقتصادي والسياسي يفرض جملة من التحديات التي ينبغي التعامل معها بجدية وبشفافية.
1- التوقيت وظروف الحرب
إنشاء مدينة صناعية متكاملة يتطلب بيئة مستقرة، سواء على المستوى الأمني أو السياسي. لكن السودان يعيش اليوم ظروف حرب وانقسام اقتصادي وجغرافي، ما يجعل أي استثمار ضخم عرضة للمخاطر. غياب الاستقرار يعني صعوبة توفير البنية التحتية، وتعطل سلاسل الإمداد، وتراجع ثقة المستثمرين.
2-شفافية إدارة الموارد
أحد أهم مداخل نجاح المدن الصناعية هو إدارة الموارد عبر قنوات مؤسسية معلنة، بعيداً عن الاحتكار أو المحسوبية. وجود شركات خاصة ترافق الوفود الرسمية دون وضوح في أدوارها، يضعف ثقة المواطنين والمستثمرين في عدالة توزيع الفرص. الشفافية هنا ليست مطلباً سياسياً فقط، بل ضرورة اقتصادية لضمان جذب التمويل الخارجي وتدفق رؤوس الأموال.
3- تجارب سابقة لم تكتمل
ليست هذه المرة الأولى التي يطرح فيها السودان مشروع إنشاء مدن صناعية كبرى. ففي عام 2018، أعلن الوزير موسى كرامة عن خطة لإنشاء ثلاث مدن صناعية بمساحات تصل إلى 130 ألف كيلومتر مربع في مناطق الجيلي والسبلوقة وبحري، كان يفترض أن توفر نحو 40 ألف فرصة عمل في الصناعات التحويلية وسلع الصادرات والصناعات الغذائية والجلود. لكن هذه المشاريع ظلت حبيسة الأدراج، ولم تتجاوز مرحلة الخطط والوعود، مما يعكس ضعف الاستمرارية المؤسسية وغياب الإرادة التنفيذية.
4- جدوى إنشاء مدينة جديدة مقابل تطوير المدن القائمة
قبل الدخول في مغامرة تأسيس مدينة جديدة للصناعات المعدنية، يبرز سؤال منطقي: لماذا لا يتم استغلال المدن الصناعية القائمة مثل مدينة جياد الصناعية؟
• هذه المدن تملك بالفعل جزءاً من البنية التحتية الأساسية.
• تطويرها أقل تكلفة مقارنة بإنشاء مدينة جديدة من الصفر.
• دمج الصناعات المعدنية مع الصناعات القائمة يعزز التكامل الصناعي ويخفض تكاليف الإنتاج.
5- تحديات رأس المال
إنشاء مدينة صناعية متكاملة يتطلب استثمارات بمليارات الدولارات، تشمل الأراضي، المصانع، الطرق، الموانئ الجافة، والخدمات اللوجستية. في ظل ضعف التمويل المحلي وتراجع قدرة البنوك على تمويل المشروعات الكبرى، يصبح الاعتماد على الشراكات الأجنبية والتمويل طويل الأجل أمراً ضرورياً. لكن هذه الشراكات لن تتحقق دون ضمانات سياسية وأمنية، إضافة إلى قوانين استثمار جاذبة.
6- تحديات الطاقة والبنية التحتية
لا يمكن لأي مدينة صناعية أن تنجح دون توفير الكهرباء والمياه والطرق. في السودان، يمثل قطاع الطاقة عقبة رئيسية:
• الاعتماد على الشبكة القومية للكهرباء محدود وغير مستقر.
• تكلفة إنشاء محطات كهرباء خاصة أو الاعتماد على الطاقة الشمسية والحرارية مرتفعة.
• ضعف البنية التحتية للنقل يرفع تكاليف الإنتاج ويضعف القدرة التنافسية.
7- ماذا تقول التجارب الدولية؟
يمكن للسودان أن يستفيد من تجارب دول أخرى في بناء مدن صناعية ناجحة:
• مصر: طورت مدن صناعية مثل “العاشر من رمضان” و”السادات”، حيث ربطت هذه المدن بالبنية التحتية القومية (طرق، كهرباء، موانئ) مما ساعدها على جذب المستثمرين.
• إثيوبيا: أنشأت “مدينة هواسا الصناعية” المتخصصة في الصناعات النسيجية، بدعم من الحكومة والبنك الدولي، لتكون مركزاً للتصدير نحو أوروبا وأمريكا. نجاحها اعتمد على الاستقرار النسبي وتوفير الطاقة الرخيصة.
• رواندا: رغم صغر اقتصادها، أقامت “منطقة اقتصادية خاصة في كيغالي” لتشجيع الصناعات التحويلية والتكنولوجيا، واعتمدت على قوانين استثمار شفافة وإجراءات مبسطة.
هذه التجارب تؤكد أن العامل الحاسم ليس فقط إنشاء المدينة، بل كيفية إدارتها وضمان استدامة البنية التحتية والشفافية.
8- دور القطاع الخاص المحلي والعالمي
نجاح أي مدينة صناعية لا يمكن أن يتحقق بجهود الحكومة وحدها. فالقطاع الخاص المحلي يمثل محركاً أساسياً للاستثمار والإنتاج، خاصة شركات التعدين والخدمات اللوجستية والمصارف. إشراكه بشفافية يعزز فرص النجاح ويخلق شراكات متوازنة.
أما القطاع الخاص العالمي، فإنه يمتلك الخبرة ورأس المال والتقنيات الحديثة. غير أن دخوله للسوق السوداني مرهون بمدى وضوح القوانين والالتزام بالحوكمة الرشيدة. غياب الشفافية أو وجود احتكار يطرد الاستثمارات، بينما الشفافية والمنافسة العادلة تفتح الباب لشراكات طويلة الأمد.

الخلاصة
إن فكرة إنشاء مدينة متكاملة للصناعات المعدنية في السودان تبدو طموحة، لكنها تصطدم بتحديات واقعية أهمها الحرب، ضعف الشفافية، نقص رأس المال، وأزمة الكهرباء. كما أن تجارب السودان السابقة، مثل مشروع 2018 الذي بقي مجرد خطة على الورق، تثبت أن التحدي الحقيقي يكمن في التنفيذ والمتابعة أكثر من صياغة الخطط.
ومن الناحية الاقتصادية، فإن تطوير المدن الصناعية القائمة مثل جياد، الجيلي والسبلوقة قد يكون خياراً أكثر عقلانية في المدى القصير، بينما يمكن التفكير في إنشاء مدن جديدة بعد استقرار الأوضاع.
المدن الصناعية ليست مجرد مبانٍ ومصانع، بل هي مشروع استراتيجي يحتاج إلى رؤية اقتصادية شاملة، إشراك حقيقي للقطاع الخاص المحلي والعالمي، وضمانات شفافية كاملة. وبدون ذلك، قد تتحول المبادرات الكبيرة إلى مجرد شعارات لا تنعكس على الاقتصاد الوطني.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات