… حين يصبح الصمت موتًا آخر
ألم أقل إننا نصبح أجسادًا باردة في تقاريرٍ تُرضي ضميرًا تبلّد من فرط الصمت؟
في ترسين، شرق جبل مرّة، ابتلعت الأرضُ أكثر من ألف روح بريئة، ولم ينجُ سوى واحدٍ، ليشهد أن المأساة ليست خيالًا، بل حقيقة مرّة… الحقيقة التي تعجز الكلمات عن احتوائها.
ألسنة التراب المبتلعة تصرخ في صمت، وأصوات الموت تتخلل كل زاوية من الجبال، تهمس للأحياء بخيبة أملٍ عميقة.
أصبح السكوت عن الحق شيئًا يمرُّ مرور الكرام؛ وعاد اسم المواطن لا يُذكر إلا داخل سطورٍ من نعيٍ يائس، وكأنّ الحياة ليست لها قيمة.
إذا أراد الله أن يغضب على قومٍ، كان مثل هذا العقاب… لكن السؤال المؤلم: هل أهل دارفور وحدهم وقع عليهم غضب الرحمن، أم أنّ الله غضب علينا جميعًا فابتلانا بالموت والخذلان والتشرّد؟
والأرض، المشوهة بالجراح والوحل، تتحدث بلغةٍ صامتة عن معاناة لا يراها إلا من عاصرها، ومن شهد الحياة تذوب بين الطين والدموع.
الحرب والفساد… وجوه خفية للخراب
ما يجري في السودان ليس قدرًا طبيعيًا فقط، بل نتاج حربٍ وفسادٍ متجدد.
الفساد يقسم الجميع مسؤولية، ويجعل الوطن رهينةً لخيبة كل من يضع مصالحه فوق المصلحة العامة.
الحرب ليست حادثًا عابرًا، بل خيانة وجشع وفساد متجدد، والصمت عن الحق أصبح موتًا آخر… موتًا نعيشه يوميًا في صمت.
البيوت المهدمة، الطرق المبتورة، والوجوه الحزينة للأطفال الذين فقدوا آباءهم، كل ذلك شهادة على وجوه الخراب التي لا تغيب عن أذهاننا.
بين الأمان المؤقت والألم الدائم
اليوم يواجه السودان كوارث متعددة؛ الأمطار تجرف البيوت، والأوبئة تحاصر النازحين.
وفي الوقت الذي يهنأ فيه جزء من الوطن ببعض الأمان، يُساق جزء آخر إلى الألم والخذلان.
ليست هذه المشكلة وليدة اللحظة؛ إنها تراكم عقود من الإهمال والسياسات العاجزة… مأساةٌ تستدعي صرخة كل ضمير حي.
الريح تعوي فوق المنازل المهدمة، والأطفال يبكون تحت المطر، والنازحون يحملون كل شيء على ظهورهم، وكأن الأرض نفسها قد تخلت عنهم.
ماذا عن الغد؟
الإعمار ليس جدرانًا تُبنى فقط، بل قلوب تُرمّم، وعدالة تُستعاد، وفساد يُقتلع من جذوره.
إذا اجتمع الناس على كلمة الحق، ورفضوا الصمت والخذلان، فإن ما دُمّر يمكن أن يُبنى، وما فُقد يمكن أن يُعوَّض، وما مات يمكن أن يُخلّد حياةً جديدة في ذاكرة الوطن… وطنٌ يعانق المستقبل رغم كل الجراح.
حتى بين الركام والدمار، تظهر بصيصات من نور: يد تمتد لإنقاذ طفل، صوت ينادي على ضائع، قلب يرفض الانكسار. كل ذلك يمنحنا رجاءً حيًّا وسط الخراب.
… بين الألم والرجاء
قد يبدو المشهد مظلمًا، لكن وسط الركام يولد دائمًا سؤال الأمل: هل يمكن أن ينهض السودان؟
الوطن لا يزال حيًّا، والرجاء باقٍ، ما بقي هناك من يصرخ في وجه الظلم، ويؤمن أن الوطن يستحق حياة أفضل.
صوت الأرض المتعبة يهمس لنا: لا تيأسوا… فهناك من يزرع الأمل بين الأنقاض، وهناك من يرفض أن ينسى شهداءه.
سلامٌ وأمانٌ فَالْعَدْلُ مِيزَان.
توقيع لا يُنسى:
أنا الرسالةُ حين يضيعُ البريد،
أنا التي لا تُطفئها الريحُ إذا اشتدَّ السَّعير،
أنا ابنةُ هذا الوطن… امرأةٌ من حبرِ النار.
بقلم /………..✍️عبير نبيل محمد