﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾
الفاشر… مدينة القبيلة بدل الإنسان
في الفاشر… مدينة الجراح، مدينة الطلقات والدموع، لم يعد السؤال عن الإنسان: ماذا يعمل؟ أو ماذا قدّم؟، بل صار السؤال: إلى أي قبيلة تنتمي؟ فإن أجبت خطأً، صارت الإجابة آخر كلماتك في الحياة.
رصاصات بلا رحمة
في تلك الشوارع المخنوقة برائحة البارود والموت، خرج أحمد — المواطن البسيط، العامل في مطعمه الصغير — واثقًا بكلمات قادة الحركات المسلحة الذين أعلنوا أن من يغادر المدينة فهو في أمان. كلماتٌ صدح بها الهادي إدريس والطاهر حجر، لكنها لم تكن سوى فخٍّ مخزٍ… وعد زائف يفتح باب الموت بدلًا من باب الحياة.
وقف أحمد أمام العميد المليشي الفاتح عبد الله إدريس، رجل اشتهر بجرائمه التي تفوق الوصف، من قتل الأسرى في محور الجيلي وأم صميمية، إلى التنكيل بالأبرياء في الفاشر. سأل المليشي ببرود:
“أنا بسألك ترد لي بالحقيقة إذا ما داير تموت… قبيلتك شنو؟”
أجاب أحمد ببراءة:
“أنا برتاوي.”
لم يحتج المليشي إلى تفكير… خمس رصاصات اخترقت جسده. وسقط أحمد شهيدًا، يهمس بجملة ستظل خالدة:
“لا تقتلني… الله يديك البركة.”
لكن البركة لا يعرفها القتلة، ولا تُعطى لمن تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء.
زمزم… خبز الدم
قصة أحمد ليست حادثة فردية، بل مرآة لمأساة تتكرر كل يوم في الفاشر.
في معسكر زمزم، الأطفال يبحثون عن كسرة خبز فلا يجدون سوى طلقات، والنساء يُسألن عن قبائلهن قبل أن يُسمح لهن بالمرور، والشيوخ يموتون عطشًا على أطراف المدينة.
وهنا… تُسمع صرخة أمٍّ مُحطّمة تحت ظل الرصاص، وهي تضم جسد ابنها الشهيد:
“وااا ولدي… يا أحمد… كنت زادي وسندي، كيف خلّوك تمشي ساي؟”
الفاشر محاصرة
الكهرباء منقطعة، الأدوية شحيحة، والأهالي بين نزوح قاسٍ وموت مجاني. وما بين كل هذا، يقف المجتمع الدولي صامتًا، وكأن أرواح أهل السودان أقل شأنًا من أرواح الآخرين.
إنها ليست حربًا على السلاح فقط، بل حرب على الهوية والإنسانية، حرب تُمارسها مليشيات غارقة في الكراهية، وقادة باعوا البندقية والشرف مقابل دراهم ومناصب زائفة.
صوت الأرض …
يا الفاشر…
يا مدينة الحزن الباقي في العيون،
دمك سايل في الشوارع…
وصرخاتك بقت أناشيد الجروح.
“الزول البموت مظلوم
ما بيموت…
بخلي فينا صرخة
تفتح جرح الزمن،
وتكتب في الطين:
الدم ما بيروح ساي!”
من الفاشر إلى العالم
ما حدث لأحمد يُعيد إلى الأذهان مذابح رواندا، ويشبه ما يحدث في غزة من قتل عشوائي وحصار جائر. إنها رسالة للعالم أجمع أن الجرائم حين تُترك بلا محاسبة تتكرر في كل مكان، وبأشكال أكثر وحشية.
أحمد لم يكن قائدًا عسكريًا ولا سياسيًا نافذًا… كان مجرد مواطن يبحث عن رزقه بعرق جبينه. لكنه تحوّل اليوم إلى رمز، إلى صرخة في وجه كل قاتل:
“لا تقتلني… الله يديك البركة.”
(مرثية أحمد)
أحمد…
يا شهيد البراءة، يا وجهًا من نور،
سقط جسدك، لكن قامت فيك أمة لن تموت.
صرختك باقية،
تسكن جدران الفاشر،
وتوقظ الصامتين من غفوتهم،
وتدين القتلة في كل زمان ومكان.
نم قرير العين،
فالوطن الذي حلمت به سيأتي،
والعدل الذي حرموك منه سيُقام،
وستُروى حكايتك للأجيال
كشمعةٍ لم تنطفئ في زمن العتمة.
سلام وأمان… فالعدل ميزان.
✍️ بقلم: عبير نبيل محمد
توقيع لا يُنسى:
أنا الرسالة حين يضيع البريد،
أنا الشاهد حين يزوَّر التاريخ،
أنا امرأة من حبر النار.