شهدت مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان حادثة اغتيال فريدة اذ سُمع دويّ رصاصة لم تكن كسائر الرصاصات. لم تكن تستهدف جسدًا فقط، بل كانت تصوّب مباشرة نحو مفهوم العدالة، نحو هيبة الدولة، ونحو ما تبقّى من مؤسسات تحاول أن تصمد في وجه الفوضى التي اجتاحت البلاد. سقط على إثرها وكيل النيابة الأعلى صريعًا، وهو الذي كان في مقدمة الصفوف يسعى لتطبيق القانون في زمن أصبح فيه القانون ذاته محلّ تصفية.
هذه الجريمة، التي هزّت وجدان السودان، ليست جريمة جنائية عادية، بل إنها تمثل أولى جرائم حرب الكرامة الغير متكررة ، وأكثرها رمزية وخطورة. فأن يُغتال رجل النيابة الأول في الولاية – وهو الذي يحمل صفة الدولة وسيادتها ومشروعها العدلي – فذلك يعني أن ثمة من أراد أن يبعث برسالة لا لبس فيها ولا تحتمل التأويل: “العدالة خط أحمر.. والحق لا يُقام هنا.”
من يقف وراء هذه الجريمة؟ ليس بالضرورة أن نعرف الأسماء، فالأفعال أفصح من الكلمات. الجهة – أياً كانت – التي خططت ونفّذت هذه الجريمة، أرادت أن توصل رسالة دموية لكل من يفكر في اقامة العدل أو أن يفتح ملفات الانتهاكات أو أن يردّ المظالم لأهلها. إنها ليست جريمة ضد فرد بل جريمة ضد القانون ضد النيابة ضد القضاء وضد الدولة ذاتها.
إنها ليست سوى فصل جديد من فصول “حرب الكرامة”، ولكنها هذه المرة لا تُخاض في الجبهات التقليدية إنما في الأروقة العدلية، في مكاتب التحقيق وفي قاعات المحاكم. لقد بدأت حرب التصفيات، التي تستهدف كل من يجرؤ على قول “لا” في وجه الباطل، وكل من يحاول أن يعيد للعدالة صوتها وهيبتها.
والمؤلم، أن هذه الجريمة وقعت رغم وجود الشرطة، ورغم تعدد الأجهزة الأمنية، بل تحت أعين الدولة ذاتها. فماذا تبقّى من الدولة إذا كانت غير قادرة على حماية وكلائها؟ وأين هيبة وزارة العدل؟ وماذا ستفعل النيابة العامة؟ وهل ستقف عند بيانات الشجب والتنديد، أم أنها ستُعلن حربًا مضادة، حربًا تُستعاد فيها هيبة الدولة وسلطة القانون؟
إن التحدي اليوم ليس فقط أمام النيابة العامة، بل أمام الدولة السودانية كلها. فإما أن تُظهر قدرتها على ملاحقة الجناة والقبض عليهم وتقديمهم للعدالة، أو تُعلن – ولو بالصمت – أنها فقدت السيطرة، وأن العدالة أضحت هدفًا مباحًا في ساحة الفوضى.
إن دم وكيل النيابة في عنق الدولة وفي عنق كل مسؤول، في عنق كل من صمت عن هذه الجريمة. وإذا لم يتحوّل هذا الدم إلى وقود لإعادة بناء منظومة العدالة، فسنشهد مزيدًا من الرصاصات، ليس فقط في الأجساد، بل في قلب الوطن.