في المقال السابق، فتحنا نافذة على الضوء القادم من الشرق، من مدينة خُلدت في ذاكرة العالم لا بوصفها مآساة، بل رمزًا للبعث: هيروشيما.
رأينا كيف انتصرت اليابان على القنبلة لا بالسلاح، بل بالعلم والإرادة والتصميم.
ورأينا في ناكازاكي كيف يُمكن للركام أن يتحوّل إلى متحفٍ للسلام، ولبنية اقتصادية وثقافية متينة.
أما الآن، فنمضي غربًا، نحو مدنٍ أخرى خاضت حربًا كونية وخرجت من باطن الجحيم، لا لتبقى على قيد الحياة فقط… بل لتُصبح نماذج ملهمة للبشرية في النهوض بعد السقوط.
في صيفٍ عابر من القرن العشرين، تحوّلت قارات بأكملها إلى رماد. لم تكن تلك الحرب مجرد معارك بين جيوش، بل عاصفة اقتلعت المدن من جذورها، وغرست في جسد الأرض طعنات لا تُنسى. من برلين إلى وارسو، ومن ستالينغراد إلى هيروشيما، كانت البشرية تختبر أقصى حدود الجنون… لكنها أيضًا كانت تزرع أول بذور النهضة.
كان الهواء في برلين ثقيلاً، كأنه لا يزال يحتفظ بصوت القصف، ورائحة الموت، وغصة الجنود العائدين إلى لا شيء. سقطت المدينة وهي عاصمة لنظام دموي، لكنها لم تبكِ طويلاً. في صباحٍ خريفي رمادي، بدأت امرأة ترتب الحجارة في زقاق مدمر. لم تكن مهندسة، بل أرملة فقدت بيتها وزوجها وأمانها، لكنها كانت تعرف أن الحجر الأول هو الأهم، وأن المدن لا تعود بالكلام، بل باليدين. تبعتها آلاف النساء، يحملن الحجارة على ظهورهن، ويشعلن الحياة من تحت الركام. هكذا بدأت برلين تعود. لم تُبنَ بقرارات سياسية فقط، بل بعرق الناس العاديين الذين رفضوا أن تنتهي حكايتهم في الهامش. واليوم، بعد عقود، أصبحت برلين لا تمثّل فقط مدينة عصرية متقدمة، بل نموذجًا عالميًا لما يمكن أن تصنعه الإرادة حين تتحد مع التخطيط والبصيرة.
أما في وارسو، فقد تجاوز الدمار كل تصور. أكثر من 85% من المدينة سُوّي بالأرض، والمباني التاريخية لم يبقَ منها سوى أطلال سوداء. كان الألم كثيفًا إلى حدّ أن كثيرين ظنوا أن العودة مستحيلة، وأن المدينة ماتت مع ذكرياتها. لكن البولنديين كان لهم رأي آخر. أعادوا رسم مدينتهم من لوحات قديمة، ومن صور باهتة، ومن مخيلة مشبعة بالحب والانتماء. لم يعيدوا بناء الشوارع فقط، بل الذاكرة. جعلوا من كل نافذة حكاية، ومن كل حجر اعتذارًا للجمال. وارسو اليوم لا تروي فقط قصة دمار… بل قصة مقاومة حضارية تعانق التاريخ، وتقول لكل العالم: لا شيء أقوى من أمة تتذكر كيف تحب مدينتها.
ثم كانت ستالينغراد، المدينة التي التهمتها أعنف معركة في تاريخ البشرية. كانت النار تشتعل في الطرقات، والدم يسيل بلا نهاية، والجدران تتهاوى كما تتهاوى الأرواح. حين انتهت الحرب، لم يبقَ شيء. لا شجرة، لا مدرسة، لا منزل يمكن ترميمه. ظنّ الجميع أن المدينة انتهت. لكنها نهضت. لم تسعَ للانتقام، بل للبناء. لم تكتفِ بالبكاء على الأطلال، بل زرعت مصانع ومدارس ومكتبات، وجعلت من أنقاض الحرب منارات تعليم وكرامة. واليوم، تُعرف باسم فولغوغراد، وتعلو فيها التماثيل لا لتمجيد الحرب، بل لتكريم من صمدوا على جبهة الحياة.
واليوم، ونحن في الخرطوم، نرى مدينتنا وقد تكسّرت أضلاعها، وتبعثرت أعمدتها، وتشققت شرايينها… نعلم أن الوجع عظيم. الخرطوم ليست وحدها، بل معها كل السودان. الألم في الشوارع، في الصمت، في العيون، في المدارس التي خلت، في البيوت التي سُرقت، في المآذن التي سكتت، في الأسواق التي احترقت، وفي النفوس التي فقدت الأمان.
لكن رغم كل ذلك… الخرطوم لم تمت.
برلين كانت مثلكم. وارسو شعرت بما تشعرون. ستالينغراد بكت كما تبكون. لكنها جميعًا نهضت. ونحن يمكننا أن ننهض. ليس بالأحلام فقط، بل بالإرادة السياسية التي تضع الوطن فوق المصالح، وبالمجتمع الذي يزرع بدل أن يلعن، ويصمت حين يُستفز، ويبني حين يُخذل. نحتاج إلى تخطيط حضري ذكي، نحتاج أن نرى المدارس قبل المظاهر، والمصانع قبل المؤتمرات، والمستشفيات قبل الشعارات. نحتاج إلى تعليم يُوقظ، وصناعة تُشغّل، وشباب يُستعمل في البناء و التعمير و الحب و السلام ،،،
نحتاج أن نؤمن، أولاً، أن السلام لا يُبنى بالبيانات، بل بالحب. لا بالصلح المؤقت، بل بالمصالحة مع النفس والتاريخ والمستقبل. أن نزرع في الطفل حب الأرض لا كراهية الآخر، أن نكتب على جدران المدارس: “أحبك يا وطني”، لا “من معنا ومن ضدنا”. نحتاج إلى أن نغفر لننهض، لا لنُنسى، بل لنتقدّم.
قد لا يكون لدينا “مارشال” جديد ليعطينا المال، لكن لدينا ما هو أثمن: الوعي، والعزة، والذاكرة. هذه هي خرطومنا، وهذه بلادنا، وهذه فرصتنا الأخيرة. فلننهض بها، لا لتعود كما كانت، بل كما يجب أن تكون: عاصمة تُشبه أحلامنا لا أوجاعنا.
ومن رماد الحرب… تبدأ الحكايات العظيمة.