في بلدٍ كالسودان، حيث تتقاطع الأعراق وتتجاور الثقافات وتتداخل الأديان، لا يكفي توفر الموارد ولا تكفي الشعارات الحماسية لبناء دولة مستقرة. فالمسألة أعقد من إدارة الثروة أو تسيير السلطة، إنها تتطلب نخبة تمتلك وعياً نافذاً بطبيعة التركيبة الاجتماعية، قادرة على قراءة تناقضاتها لا إنكارها، وتعمل على تفكيك الولاءات الضيقة لا إعادة تدويرها. لكن النخبة لم تنبع من هذا الوعي المركّب، بل نشأت من قلب الأزمة، وتماهت مع اختلالاتها، فحاولت القفز فوق الواقع بأدوات مستعارة لا تنتمي إلى تربته، ولا تعبّر عن تعقيد مجاله الحيوي. وهكذا ظل مشروع الدولة مؤجلاً، لأن من تولّوا أمره لم يلامسوا جذور الأزمة.
حين أشرقت شمس الاستقلال، لم تكن النخبة أمام لحظة تأسيسٍ فقط، بل أمام سؤال وجودٍي ثقيل، كيف تُبنى دولة في فضاءٍ مشبع بالطائفة والقبيلة، ولا تزال حدوده النفسية والتاريخية رهينة لماضٍ لم يُفكك بعد؟ لقد وجدت النخبة نفسها بين سلطتين نافذتين، الطائفية التي صاغت وجدان الجماهير، والقبلية التي رسّخت انتماءاتهم. ورغم محاولات التنوير التي بشّر بها (مؤتمر الخريجين)، غير أن النخبة سرعان ما انجذبت إلى الجماهير الجاهزة، فبدّلت مشروع بناء الوعي بحمل راية التعبئة السريعة، فتخلت عن دورها القيادي التنويري وتحولت إلى تابعٍ يخدم مصالح القوى التقليدية.
مع وصول الطبقة المثقفة إلى مسرح السياسة، بدا المشهد وكأنها تستولد رؤى بديلة، لكن ما طُرح لم يكن نتاجاً لتأمل في تعقيدات الواقع، بل استعارات فكرية مستوردة، لم تُروَ من ماء الأرض ولا تشرّبت من جروفه. فالحزب الشيوعي، على سبيل المثال، سعى لتطبيق مفاهيم العدالة الطبقية في مجتمع لم يعرف الطبقة بوصفها بنية اجتماعية صلبة، بل ظل محكوماً بعلاقات الدم والقرابة والولاء الأهلي، لا بالتفاوت الرأسمالي المجرد. وبالمثل، اندفع الإسلاميون نحو إقامة دولة الخلافة، دون أن يتوقفوا عند سؤال الهوية في مجتمعٍ تتقاطع فيه الأعراق وتتنافر الثقافات والمعتقدات، فكان مشروعهم تعبيراً عن قفزة فوق الواقع لا عبوراً عبره، وكانت النتيجة مزيداً من الانقسام الداخلي والعزلة الخارجية. أما القوميين والبعثيين، فقد حملوا راية الوحدة العربية دون أن يتّسع وعيهم لتنوع السودان العرقي والديني واللغوي، فبدل أن يُعيدوا تعريف الإنتماء الوطني على قاعدة جامعة، انكمش خطابهم حتى ضاقت الدولة بأبنائها، وتحوّل الحلم إلى قيد جديد. وهكذا، تكرّر الخطأ ذاته، مشاريع كبرى تُطرَح من فوق، دون استنطاق الواقع، فتُنتج نخبة تُجيد الترديد ولا تُتقن التأصيل، وتعيد إنتاج الغُربة بدل أن تجسرها.
حين عجزت النُّخَب الحزبيّة عن إنبات جذورٍ تنويريّة في تربة الجماهير، مدّت يدها إلى الزناد تستعير صلابة المِدفع بدل نفاذ الفكرة. هكذا، كان انقلاب ١٩٥٨ بتنسيق غير معلن بين رئيس الوزراء آنذاك عبد الله خليل (عن حزب الأمة) والقيادة العسكرية، ساند الحزب الشيوعي والقوميون العرب انقلابَ ١٩٦٩، ثم أعادت الجبهة الإسلاميّة الكرة بتدبير انقلاب 1989. فكانت الحصيلة حروباً أهليّة، وتمزّق الوطن، وانهياراً اقتصادياً. لجوء النخبة إلى فُوّهة البندقيّة حين تفلس رُؤيتها، هو أبلغ دليلٍ على أزمة الوعي الثقافي، إذ تتحوّل القوّة إلى ستارٍ يُخفي العجز، لا درعٍ يصون النجاح.
تكمن المفارقة المريرة في أنّ النُّخب، رغم صدق النوايا في بعض مفاصل التاريخ، كانت على الدوام جزءاً أصيلاً من معضلة السودان لا مفتاح حلّها. لأنها انشغلت بصياغة مشاريع على مقاس أيديولوجياتها لا على مقاس الواقع، وأخفقت في فهم أن التنوّع ليس عائقاً، بل المادة الخام التي يُصاغ منها الولاء الوطني إذا أُحسن التعامل معها. لم تطرح النُّخَب، لا اليسارية منها ولا الإسلامية، السؤال الجوهري، كيف نبني دولة يجد الجميع أنفسهم في صورتها؟ بل انصبّ جهدهم على أسئلة الهيمنة، كيف نحكم؟ كيف نُقصي؟ كيف نفرض رؤيتنا؟ وهكذا تحوّلت البرامج إلى معارك، والمشاريع إلى أنقاض، وانهارت الدولة بينما بقيت القبائل والطوائف، لأنها على محدوديتها كانت تفهم البنية الاجتماعية أكثر من نُخبها، وتتكيف معها، لا تزعم تجاوزها بخيالٍ مستورد. إنها مفارقة لاذعة، أن تعجز النخبة عن تفكيك ما هو قائم، فتُعيد إنتاجه في لبوس حديث، بينما تظل البنى التقليدية أكثر فاعلية لا لعمقها بل لعجز النخبة عن صياغة بديل حقيقي لها.
ليست المجتمعات حقولاً تُزرع ببذورٍ مستوردة، ولا أجساداً تُحقن بأمصالٍ أُعدّت في مختبراتٍ بعيدة، إنّما هي كائناتٌ حيّة لا تنهض إلا حين تنبت رؤيتها من عمق تربتها، وتتشكل من تفاعل ذاكرتها، وتعدّد مكوّناتها، ونبض واقعها المتجدد فإذا جاء مفكّر أو حزب أو تيار يسكب مشروعه الجاهز على شعبٍ متنوّعٍ لا يُشركه في الحوار ولا يصغي إلى خصوصيّاته، فهو لا يصنع تغييراً، بل يمارس قمعاً مموّهاً بخطاب التغيير. ولن يبرأ الوطن من عِلله ما لم تُنجب هذه الأرض نخبةً جديدة تفكّك منطق الوصاية لتؤسّس لثقافة الشراكة، وتُبدّل منطق الإملاء بحكمة التفاوض، وتستعيض عن صدى الشعارات بصفاء الفهم، فسنبقى ندور في دوّامة الهزيمة، نراكم الخسارة تلو الأخرى، ونُسمّيها، سخريةً أو خداعاً تغييراً. فهل آن لنا أن نتّعظ؟ هل نُحسن الإنصات وقراءة التاريخ في همسه وصراخه؟ هل يمكننا، بعد كل هذا التيه، أن نعيد الإمساك بخيط المعنى ونبني دولة لا تقوم على المحاصصة والولاءات، بل على عقدٍ أخلاقي جديد، يُقيم العدل، ويُنصف التنوع، ويحرّر الإرادة؟ إننا لا نفتقر إلى الموارد، بل نفتقر إلى الوعي، ولا تنقصنا الطاقات، بل تنقصنا البوصلة.
abudafair@hotmail.com