في وقت تمضي فيه الخرطوم بخطى متسارعة نحو النور، تتبدد وحشة العتمة التي ظلّت تغشاها لأكثر من عامين، كأن المدينة تنهض من تحت الرماد لتعلن أنها لا تزال حيّة، وأن الدم الذي يسري في شرايينها لم يجف. عودة التيار الكهربائي تدريجياً ليست مجرد خبر فني أو إنجاز خدمي، بل هي بشارة لها دلالات عظيمة هي أن الحياة تعود، وأن الناس يستحقون الأمل, وفي خضم هذه العودة، تمرّ علينا ذكرى هجرة الحبيب المصطفى ﷺ، بكل ما تحمله من معانٍ خالدة، ودروس سامية عن الصبر والمصابرة والإيثار، لتجعلنا نتوقف، ونتأمل…
فما أحوجنا اليوم إلى روح الهجرة .. الهجرة لم تكن فرارًا، بل كانت انطلاقًا نحو تأسيس دولة العدل والرحمة، دولة العقيدة والوحدة. والنبي ﷺ لم يهاجر وحده، بل معه رفيق دربه أبو بكر رضي الله عنه، ومعهم قلوب صدّيقة آمنت بالغيب وبذلت النفس والمال والجهد. وكان الأنصار في المدينة هم نواة الاستقرار، الذين بلغوا من الإيثار مبلغًا عظيمًا، حتى اقتسموا بيوتهم وأموالهم، بل وزوجاتهم، مع المهاجرين، ليقيموا مجتمعًا جديدًا على قاعدة المحبة والوحدة والتكافل.
فهل نحن، في هذا الزمن العصيب، مؤهّلون لأن نعيد عجلة التاريخ؟
هل نملك الشجاعة لأن نُؤثر بعضنا على أنفسنا؟
هل يمكن أن تكون الخرطوم على ما أصابها من جراح مثل المدينة يوم هاجر إليها رسول الله ﷺ، حضنًا حانيًا لكل من تقطّعت به السبل؟
الوطن اليوم في أمسّ الحاجة إلى من يؤمن أن البناء لا يبدأ بالسياسات، بل يبدأ من القلوب. الخرطوم لا تحتاج فقط إلى الكهرباء والماء، بل تحتاج إلى نور من نوع آخر: نور الصدق، ونور الإخلاص، ونور الوحدة.
فلنقل مرحى بعودة النور… مرحى بهجرة الظلام…
ولنجعل من ذكرى الهجرة منصة لانطلاقة جديدة، نرسم فيها ملامح الغد، لا بالأماني، ولكن بالعزائم.
هلمّوا نعود… إلى الخرطوم، إلى النور، إلى الوطن.