﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْسًۭا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًۭا ۖ﴾
— سورة المائدة، الآية 32
حينَ وقفَ قابيلُ على جسدِ أخية هابيل، لم يعرفْ كيف يدفنة…
لم يقتلةُ .جوعًا، ولا خوفًا، بل لأنَّه حسده… وكرهَ نورًا كان فية.
تعلَّمَ من غرابٍ كيف يدفن أخاه، لا كيف يندم.
وهكذا بدأت أوَّلُ الجرائمِ… لا بسكين، بل بنيّةٍ سوداء.
وهكذا يُقتَلُ السودانُ كلَّ يوم… لا برصاصة، بل بنوايا أبنائة.
نحنُ لا نحاربُ الآنَ من أجلِ الأرضِ… بل نحاربُ على جثتِها.
لم تَعُدِ الحربُ في الفاشرِ والجنينةِ وكادوقلي فقط، بل امتدَّت لتأكُلَ ما تبقَّى من النخوةِ في الأبيض، وود بندة، وتلس، وعَدِ الفرسان، وبرام، وسنجة، وكسلا، وبورتسودان، بل حتَّى نهر النيل التي ظنَّ أهلُها أنَّ النارَ لا تصِلهم… حتَّى وصَلَت.
صحيحٌ أنَّ الاشتباكاتِ لم تندلع هناك ، لكنَّ نارَ الفتنةِ بدأت تحرقُ من الداخل…
لا رصاص، بل كلمات…
لا دمارٌ للمباني، بل تصدُّعٌ في القلوب.
تُشعلها خُطبُ الكراهية، ويُغذّيها إعلامٌ مأجور، وتمتدُّ بخيوطٍ ناعمة تُقطِّع جسدَ الوطنِ بصمتٍ أشدُّ من صوت المدافع.
في المثلثِ الحدوديِّ الآن، أصابعٌ خارجيَّة تعبثُ بالأمنِ والسيادة.
قوى إقليميَّة ودوليَّة تقسِّمُ الأدوار،
تتسلَّلُ إلى الأرضِ باسم “المساعدات”، وتزرعُ عملاءَها باسم “السلام”،
بينما الحقيقة: أنَّ الخرائطَ تُرسم، والحدودَ تُراجَع، وأهلَ البلدِ في شتاتهم غافلون.
ومن قلبِ الميدان، انسحبَ الجيشُ من بعضِ المواقعِ انسحابًا تكتيكيًّا لا هزيمة، كما جاء في التقريرِ العسكريِّ الأوَّل:
“الانسحابُ هدفُه إعادةُ التموضعِ والتقاطُ الأنفاسِ في معركةٍ طويلةِ النَّفَس”.
هكذا قيل، وهكذا يجب أن يُفهم.
ليس كلُّ تراجعٍ هزيمة… أحيانًا النسرُ يبتعدُ ليضربَ بقوة.
لكن،
وسطَ كلِّ هذا، تظهرُ “المليشيات” تعبثُ بالمشهد…
تسرق، وتنهب، وتختطف، وتحكمُ بالمزاجِ والسلاح.
تدخلُ مدينةً وتتركُها جحيمًا، لا لشيء، فقط لتُرضي أطماعًا صغيرة لأجندةٍ كبيرة.
العنصريَّة؟
كفانا كذبًا على أنفسنا، فالتمييز أصبح مرضًا متفشيًا
لا يُخفيه بيان، ولا يغطيه خطاب. العنصرية اليوم تُمارس من كل الأطراف، لكن شمال السودان تحديدًا يُغذيها بخطاب نخبته السياسية، حين يصمتون عن المذابح، ويعتبرون الفاشر مجرد رقم في نشرة أخبار. لا فضل لأحد على أحد، وكل مدينة سودانية هي الخرطوم، وكل بيت فيها هو بيت الوطن.
الفتنة
هي نار اشتعلت في كلِّ الاتجاهات،
لكنَّها في الشمالِ أقسى…
ليس لأنَّ الإنسانَ هناك بلا قلب، بل لأنَّ فخَّ الفتنة نُصِبَ بذكاءٍ في نُخاع الدولة.
صار بعضهم ينظرُ إلى الآخر كخطر، لا كشريكِ وطن.
كلُّ ذلك لأنَّ من كان يحكمُ زرع الكراهية، وتمت إدارة البلادَ بمنطق “فرِّق تسُد”.
رسالة : لومٌ للجميع
– لمن أداروا وجوههم عن الحقيقة واختبأوا خلف المصالح: هل سترضون بالعودة إلى الحكم على جثث الأبرياء؟
– لمن ما زالوا يروّجون لأوهام التفاوض في عزّ النار: هل دمنا صار رخيصًا لهذه الدرجة؟
– لمن يقسمون السودان جهات وقبائل وولايات: من أنتم لتجزّئوا قلب الوطن؟
من لم يُشارك في الحربِ، شاركَ بالصمت.
ومن لم يُطلق رصاصة، أطلق نظرةَ كراهيةٍ قطعت ألفَ قلب.
ومن لم يُقسِّم الوطن، برَّرَ ذلك بخطابٍ سياسيٍّ بارد، ومصافحاتٍ كاذبة.
لقد شربت الأرض من دمنا بما يكفي، فليصمت الجشع قليلًا، وليرتجف الظلم أمام صبر الأمهات، وتاريخ الرجال الذين لا يساومون.
صرخات دارفور لا تختلف عن أنين سنار، ولا وجع الجزيرة بعيد عن لوعة كردفان. نحن وطن واحد، فإمّا أن نعيش كرماء، أو نموت واقفين.
ومن على رمال جبل العوينات وحتى حوائط الفاشر الصامدة… نقولها للعدو والصديق:
نحن صامدين بفضل الله …
نحن لا نطلبُ المستحيل…
نطلبُ وطنًا يُعامِلُ أبناءه كأهل، لا كضيوف.
نطلبُ دولةً لا تُفرِّق بين الجريحِ في الغرب، والمقهورِ في الشمال.
نطلبُ أن نُدفنَ بكرامة… لا أن نموتَ على أرصفةِ التاريخ.
أيها الساسةُ الذينَ يلهثونَ خلف حكومةٍ تتشكَّل:
احذروا من لعنةِ الأرواحِ التي سُرِقَت ظلمًا…
من دموعِ أمَّهاتٍ ينتظرنَ أبناءَهنَّ ولا يأتون…
من نازحينَ في أرضهم، لا يعرفونَ معنى “البيت”، ولا يعرفُهم أحد.
فالتاريخُ سيحفظُ أسماءَ من وقفَ مع الشعب،
وسيلعنُ من باعوهُ في سوقِ الأنانيَّة.
سلامٌ وأمان… فالعدلُ ميزان.
توقعي لا يُنسى
أنا الرسالةُ حينَ يضيعُ البريد… امرأةٌ من حبرِ النار.