الإثنين, يونيو 9, 2025
الرئيسيةمقالات"سلام على وطن يُضحّى بشعبه… وعيد بطعم المقابر". بقلم/ عبير نبيل...

“سلام على وطن يُضحّى بشعبه… وعيد بطعم المقابر”. بقلم/ عبير نبيل محمد

في أول مشهد من قصة الفداء، حين رأى نبي الله إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، لم يكن ذلك اختبارًا لفردين فقط… بل امتحانٌ خالد للإنسانية كلها في مفهوم الطاعة والتضحية.

فهم إسماعيل، وهو الغلام الحليم، أن القرب من الله لا يكون إلا بالتسليم، وقال:
﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾
(سورة الصافات، الآية 102)

وكانت التضحية عظيمة، لكنها لم تكن بذبح الحياة بل برفع مقام الإيمان.

ومنذ ذلك اليوم، صار العيد شعيرة مقدسة، نتذكر بها كيف تكون الطاعة لله أعلى من كل نزعة بشر، وكيف تكون التضحية قُربى، لا استباحة للناس، ولا سوقًا للدم.

لكن…
ماذا لو أُفرغ العيد من معناه؟
ماذا لو صارت التضحيات لا تُقدم لله، بل تُقدَّم على موائد السياسة، وتُسكب دماء الأبرياء لتزين طاولات الحكام؟


بعد كل هذا العذاب الذي كُتب علينا، وبعد أن ارتوت الأرض من دماء الأبرياء حد الاكتفاء… لا تزال تنزف، ونموت نحن ألف مرةٍ ومرة. أصابنا الوهن، وتوقفت قلوبنا عن الخفقان، كأنها قررت أن تعيش على الهامش، بلا نبض، في وطنٍ لم يبقَ فيه شيء ينبض بالحياة.

حُملت أرواحنا إلى سعير حربٍ لم نخترها، وسُقنا إليها كما يُساق الحطب لإشعال نيران من لا يشبعون نارًا. وها نحن اليوم، وبعد أن استوطن الرعب في داخلنا، يُساق الجميع إلى مهرجانات فرحٍ ملوثة بدماء الشهداء. يهتف الناس، لكن الهتاف مخنوق، وتتصاعد زغاريد ممزوجة بأنين الأمهات، وجراح لا تندمل.

أي نصرٍ هذا؟ وأي مستقبل؟ أي بيت وأي شارع يمكن أن يحتمل فرحة؟ وأي سعادة تُبنى على ركام أجسادنا؟
وطني، يا من تلفظ أبناءك كما الأجنّة غير الصالحة للحياة… كما تُجهِض الأنثى جنينها حين يموت، أجهضتَ فينا كل حلم.

من وطنٍ كان يجب أن يحتوينا، صرنا نحتمي بالوهم من عاصفة الحقيقة.
من شعبٍ كان يملأ الأرض، لم يتبقَّ منه سوى صدى…
وصدى لا يصنع وطنًا، ولا يعيد الميت من مقبرته.

في وطنٍ يسود فيه العزُّ من دان،
وفي أمةٍ جعلت من همّة قوت يومها طموحًا،
هل تظن يا من تحكم، أنك منّا؟
هل تظن أن هذا الشعب لا يفهم ألاعيبك؟
كلا… هذا المقال، وهذه الكلمة، وهذه العيون، كلها تسقط الآن كرعبٍ فوق رؤوس من اعتادوا الكذب على المنابر، والنوم في القصور، وبيع الخرائط مقابل بقائهم في الكراسي.

فرحة المجذوب يوم العيد… فرحة.
ودمعة المسجون بين قبور العارفين… ضحكة.
وشمعة العارفين في قصور الجاهلين… نعمة.
لكن نقمة الداركين للحق وجعة لا تُحتمل.
وفرحة تليها حسرة، ووطن يرتدي طرحة الحداد… في صمتٍ لا يسمعه إلا الموتى.

عزاء يُقام… وطقوس وداع… وبكاء لا ينتهي.
عروسٌ عمياء لم ترَ ورد الربيع، فكان العرس عزاء.
والموت يقاس، والعمر رهن الاعتقال.
أما الفرح، فقد اغتيل عند أول نقطة تفتيش للحلم، فغابت معه حدود الأمل والوجع.

هذا عيدٌ وصمت، رجوعٌ وأحلام، وحكومة تتشكل فوق ركام الجثامين.
مقابر جماعية تُكتشف، وأحزابٌ تقتتل، وعبادٌ يسجدون للمال قبل أن يركعوا لله.
الحرب لم تُحسم، والأرض تم تقسيمها وتقاسمها.
هنا غنيٌّ يتمايل، وهنا فقير لا يجد حتى الخبز العفن.
هنا سلاطين وخونة، هنا من يرسم خارطة شعب، وهنا من يعبث بلقمة عيشه.

آهٍ من وطنٍ أصبح لا وطن…


كلمة إلى شعبٍ يسود فيه العزّ من دنا وتنازل

أيها الشعب…
هل سَوّلت لك نفسك يومًا أنك من أصحابها؟
من ساكني الخرطوم؟
من أهل القصور والمناصب والمراسيم؟

إنها الخرطوم التي بدأت بإقصاء أصحاب الهامش تحت شعار هدم العشوائي،
تُقنَّن الآن بخطط وخرائط وخرابيط،
وتُبنى على سراديب الوهم مشاريع لا تسكنها أنت،
بل يُهجَّر فيها الفقير قسرًا،
وفي يوم الإعمار لن يجد فيها حجرًا يخصّه،
ستُحكم بمن لا يعرفونك، ولا يشبهونك، ولا يشبهون ترابك.

إنها ليست لك.
يسكنها أصحاب الأساطير الإلكترونية، ونفوذ الأسافير،
من لا يحملون جراحك ولا أسماء أهلك،
من لا يفقهون وجعك، ولا يرفعون اسم أمك في الدعاء.

هذه العاصمة تُقسم أمام أعيننا،
القصور تُشيّد… لا لنا.
وأصحاب الدماء؟ لهم الذكرى عند الذكرى.
أما الحسنة فتُقدَّم دائمًا إلى من ليس من جلدنا،
وتُمنح للخارج، لعلهم يشفعون للذين باعتهم هذه الدولة بثمنٍ بخس.

ستصبح بلادنا دويلات فقيرة، تُقسم كما تقسم الفريسة،
وكل لكع بن لكع سيُرفع إلى مرتبة “ملك الملوك”
ولا حلم، ولا حق،
ولا مكان في السطر لك…

سيسكنُها أصحابُ الأساطيرِ والسُّفاراتِ والأسافير،
أنت… فلك الذكرى عندَ الذكرى،
والحسنةُ تُقدَّمُ باسمِك إلى طاولةِ تفاوضٍ لم يُدعَ إليها وجهُك!

لا تحلم…
فلا حلم، ولا حقّ، يُمنحُ لك.

فإلى الذين يظنون أنَّ هذا الشعبَ لا يفهمُ ألاعيبهم:
هذا المقالُ،
وهذه الكلمة،
وهذا القلم،
رعبٌ يسقطُ فوقَ رؤوسِكم كصاعقةِ مساءٍ خانق.


بقلم: عبير نبيل محمد
توقيع لا يُنسى
“أنا الرسالة حين يضيع البريد… أُكتب من فم النار، وأختم بدمٍ لا يجف.
امرأة من حبر النار.”

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات