في زمنٍ انقطع فيه كل شيء…
الرحمة، والدواء، والصوت الذي ينادي من تحت الأنقاض.
نعيش أيامًا لا يُقاس فيها عمر الوطن بالسنوات، بل بعدد الجثث التي تُرفع يوميًا من طرقات الخرطوم.
أيامًا لا تُقاس فيها الكرامة بالألقاب ولا بالرايات، بل بعدد اللقاحات المفقودة، والعيون التي ماتت وهي تنظر للأمل من بعيد.
نحن لا نكتب مقالًا فقط…
نحن نوثق صرخة وطن ينهار،
وقلب أم تذوب كل يوم أمام طفلها المُحمّى بلا دواء،
ورجلٌ يدفن زوجته،
وأبٌ يدفن ابنته،
وابنٌ يدفن والدته،
في جنازات بلا وداع، وبلا نعوش، وبلا مستقبل.
في فجرٍ باكٍ من أيام الخرطوم، كانت امرأةٌ تغسل جسد ابنها بدموعها قبل أن تواريه الثرى.. لم يُقتَل برصاصة، بل أسلم الروح في ممرٍ موحلٍ من الكوليرا. من كان يظن أن الماء، ذاك العنصر المقدّس للحياة، سيكون السلاح القاتل في وطنٍ يئنّ من الجراح؟ وهل الكوليرا وحدها من تفتك؟ أم أن هناك أوبئة أخرى بأسماءٍ سياسية؟
وزارة الصحة تعلن تراجع الوباء.. لكن ماذا عن الوطن؟
نسبة الشفاء 92%، تقول الوزارة. والأمل يحاول أن يشق طريقه من بين ركام الألم. لكن الرقم الصادم هو ذاك العدد الجديد من المصابين في أم درمان وكرري، حيث لا كهرباء بصورة منتظمة ، ولا صرف صحي، ولا ماء نظيف للجميع . نعم، تم خفض الوفيات إلى 23، ولكن ماذا عن آلاف الأرواح التي تنتظر دون دواء؟ دون سقفٍ؟ دون صوتٍ؟
السؤال الذي يهمس به كل مواطنٍ في داخله:
هل ما يحدث لنا قدرٌ سماويّ؟
أم أن الإنسان نفسه هو من أطلق شرارة الموت في جسد وطنٍ كان يومًا مليئًا بالخُضرة والضحك؟
لقد خلقوا الحرب، فاختفت الأدوية.
قصفوا المستشفيات، فهرب الأطباء.
قطعوا الكهرباء، فتعفنت المياه.
ثم جلسوا على الشاشات يتحدثون عن السيادة والكرامة، ونسوا أن كرامة الإنسان تبدأ من حبة دواء نظيفة، ومن كوب ماء غير ملوث.
اليوم، في المناطق “المحرّرة”، لا يزال المواطن يبحث عن الحرية الحقيقية: حرية العيش دون خوف، حرية التنفس دون عدوى، حرية دفن موتاه دون ملاحقة القصف أو الجثث المتعفنة.
المحرّرون يرفعون الرايات، لكن الأطفال ما زالوا ينامون على بطون خاوية، والكوليرا لا تعترف بانتصارات عسكرية ولا بانكسارات سياسية.
لماذا العام الماضي لم تسجل الخرطوم حالات كوليرا؟
لماذا الآن تحديدًا بعد تحرير الخرطوم؟
هل السبب طبيعي؟ أم أن في الأمر عبثًا خفيًا؟
كل المؤشرات تنذر بأن الكوليرا ليست عرضًا طارئًا، بل نتيجة مباشرة لانهيار البنية التحتية، واستمرار المعارك، وتخلي العالم عن أبسط واجباته الأخلاقية.
والأسوأ لم يأتِ بعد.
نقترب من فصل الخريف…
ذاك الفصل المرعب،
حين تمتزج مياه الأمطار بالصرف الصحي،
وحين يتحول كل مجرى إلى مستنقع موت،
ولا وجود لأي استعدادات حقيقية رغم تصريحات المسؤولين.
الواقع لا يُبشر بخير…
والخريف، إن أتى والخرطوم بهذا الحال، فلن يكون موسمًا… بل سيكون مجزرةً صحيةً علنية!
نداء استغاثة عاجل إلى منظمة الصحة العالمية:
نعلم أن بعض الفرق الطبية تعمل في الميدان، نشكرها…
لكن ذلك ليس كافيًا، ولا يغني عن تدخلٍ دوليّ فعّال.
هل من المعقول أن تترك مدينة كالخرطوم، تحت رحمة الحرب والكوليرا معًا؟
أين أنتم يا من ترفعون شعارات الصحة حقّ للجميع؟
أين أنتم يا من تتباهون بالإنجازات في المؤتمرات؟
الخرطوم تُباد ببطء،
الكوليرا لا تنتظر البيانات، ولا الإذن، ولا المنصات.
هي تقتل الآن…
والصمت، جريمة.
هذه صرخة استغاثة علنية…
من تحت ركام الخرطوم إلى منظمة الصحة العالمية،
أنقذوا الأرواح،
تحرّكوا قبل أن تتحول الكوليرا من مرضٍ إلى وباءٍ عابرٍ للحدود،
فما يحدث ليس أزمة عابرة، بل عارٌ دوليّ… إن لم يُواجه الآن، فلن يُغفر لاحقًا.
والآن…
لم نعد نريد تقارير ملوّنة من وزارات مغلقة.
نريد أن نرى الفرق الطبية في الميدان، لا خلف المايكروفونات.
نريد أن نعرف: هل نحن بشر لهم حق النجاة؟ أم مجرد أرقام تموت بالتناوب؟
الخرطوم، الفاشر، أم درمان، جبل أولياء، كلّها تنزف…
والوطن لا يحتمل جرحًا جديدًا.
فافتحوا العيون، أنصتوا للصرخة،
واسألوا أنفسكم قبل أن تسألنا الأجيال القادمة:
لماذا صمتّم؟ ولماذا قتلتم الوطن مرّتين؟ مرةً بالحرب… ومرةً بالإهمال.
إن لم تتحرك الصحة العالمية الآن، فستصبح الكوليرا مجرد بداية…
وسنشهد انهيارًا صحّيًا قد يمتد لأجيال.
“سلام وأمان فالعقل ميزان، والعاقل من أدرك أن الحياة ليست سلطة، بل شرف الدفاع عنها.”
توقيع لا يُنسى:
أنا الرسالة حين يضيع البريد، حين يصير القلم شاهدًا على خيانة البشرية لجوهرها، حين تصبح الأنثى هي آخر ما تبقى من دليل… أنا امرأة من حبر النار.
عبير نبيل محمد