منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، بدا وكأن السودان يقف على عتبة تحوّل تاريخي. ملايين الشباب في الشوارع يهتفون بشعار “حرية، سلام، وعدالة”، بينما تتهاوى أركان نظام عمر البشير بعد ثلاثين عامًا من الحكم . كان الأمل حينها أن تقود قوى الثورة المدنية البلاد إلى عهد جديد من الحكم الديمقراطي والمؤسسات الراسخة. لكنّ واقع اليوم يكشف عن مفارقة مريرة: القوى ذاتها التي مثّلت الحلم، باتت اليوم أحد تجليّات الأزمة.
الثورة بلا حامل سياسي
إن أحد أهم ملامح فشل التجربة الانتقالية في السودان يتمثل في غياب الحامل السياسي الحقيقي للثورة. فبينما مثّلت لجان المقاومة والشارع النابض محرك الحراك الشعبي، احتكرت الأحزاب التقليدية – عبر تحالف “قوى الحرية والتغيير” – التفاوض والتمثيل السياسي، دون امتلاك مشروع وطني متماسك أو قدرة على بلورة عقد اجتماعي جديد.
هذا التناقض تجلّى منذ توقيع الوثيقة الدستورية عام 2019، التي جاءت نتيجة مساومات فوقية مع المجلس العسكري، دون مشاورة حقيقية للفاعلين الثوريين. ومنذ ذلك الحين، بدأت ملامح التكلّس السياسي والانقسام تطغى على المشهد المدني.
شعارات بلا مضمون
رغم الوعود الكثيرة، لم تُقدِّم الأحزاب المدنية خارطة طريق لبناء الدولة. فقد فشلت في مقاربة قضايا جوهرية مثل العدالة الانتقالية، تفكيك النظام القديم، وإعادة هيكلة الدولة. بدلًا من ذلك، انجرت إلى محاصصات حزبية، وصراعات سلطوية، وخطاب شعاراتي أجوف. بل إن بعض القوى أعادت إنتاج سلوك النظام السابق عبر الزبائنية والانغلاق الإيديولوجي.
والأخطر من ذلك، أن هذه القوى عجزت عن تجديد نخبها، وبقيت رهينة قيادات تاريخية لم تواكب التحولات المجتمعية، ولم تفتح المجال لقيادات شبابية جديدة تعبّر عن روح الثورة ومطالبها.
الارتهان للمحاور الخارجية
من المفارقات العجيبة أن القوى المدنية، التي رفعت شعار السيادة الوطنية، أصبحت جزءًا من ترتيبات دولية فرضتها قوى إقليمية مثل الإمارات والسعودية، وبتنسيق مع الولايات المتحدة وبريطانيا. الاتفاق الإطاري مثال حي على ذلك: وُقّع في غرف مغلقة، بعيدًا عن الشفافية، وكرّس تهميش الفاعلين الحقيقيين في الثورة.
بهذا، لم تفقد القوى المدنية فقط ثقة الجماهير، بل خضعت لهيمنة أجندات خارجية تعاملت مع السودان كملف أمني لا كدولة على عتبة التحول الديمقراطي.
فشل التحديث السياسي
ما نشهده اليوم ليس فقط فشلًا ظرفيًا للأحزاب، بل أزمة بنيوية في التحديث السياسي السوداني. فمنذ الاستقلال، ظلت النخب الحزبية عاجزة عن بناء مؤسسات ديمقراطية داخلية، واكتفت بإدارة الولاءات والمصالح. الدولة كانت دومًا غنيمة لا مشروعًا، والتحالفات إما مع العسكر أو مع الخارج.
الثورة كانت لحظة كاشفة لا مؤسسة مُنشئة. وقد كشفت هشاشة الأحزاب، وأكدت أن الطريق نحو الحداثة السياسية لا يمكن أن يُبنى بأدوات بالية ونخب عاجزة.
الفاعلون الجدد: البديل القادم؟
وسط هذه الانهيارات، تبرز لجان المقاومة، التحالفات المهنية، والمبادرات الشبابية كحامل محتمل لمستقبل سياسي بديل. هذه الكيانات وإن كانت لا تزال في طور التشكّل، إلا أنها تعبّر عن دينامية جديدة أكثر التصاقًا بالميدان، وأكثر جرأة في طرح الأسئلة الكبرى.
إن تجاوز الأحزاب التقليدية لا يعني إقصاءها بالضرورة، بل إعادة تأسيس الحياة السياسية على أسس جديدة: الشفافية، المحاسبة، والارتباط الحقيقي بقضايا الناس.
فرصة ضائعة أم بداية جديدة؟
صعود القوى المدنية بعد الثورة لم يكن مُستحقًا بالكامل، بل كان بفعل الفراغ الذي خلّفه سقوط النظام. واليوم، بعد التجربة المريرة، لم يعد يكفي الحديث عن الشعارات أو لوم العسكر وحدهم. المطلوب هو نقد جذري، مراجعة شاملة، وانفتاح على الفاعلين الجدد الذين يملكون الإرادة لا فقط الخطاب.
إن لم تتحرر الأحزاب من ذهنية الغنيمة والمحاصصة، وإن لم تنفتح على أفق جديد، فإنها لن تكون فقط خارج السلطة، بل خارج التاريخ.