في لحظة تاريخية مشوبة بالقلق والترقّب، تم تعيين الدكتور كامل إدريس رئيسًا للوزراء في السودان، وسط أزمة سياسية وأمنية خانقة، وانهيار اقتصادي غير مسبوق، وخرائط جغرافية يُعاد رسمها بالنار والدم.
يحمل إدريس سجلًا حافلًا في المحافل الدولية، وسمعة نزيهة في قضايا العدالة والتنمية، لكنه يدخل إلى ساحة مليئة بالحطام، حيث الدولة في حالة احتضار مزمن، والشارع مفكك بين الأمل والخوف.
السؤال اليوم: هل يستطيع كامل إدريس أن ينقذ السودان؟ أم أن تعيينه مجرد محاولة تجميلية لتأجيل الانهيار؟
دولة بلا جسد: عندما يحكم الفراغ
منذ اندلاع الحرب وتمرد “قوات الدعم السريع” في أبريل 2023، لم يعد السودان يُدار من مركز سلطة حقيقي. لقد تحوّل إلىفسيفساء من الجبهات ، تُدار كل منها بمنطق الغلبة لا الشرعية.
وفي ظل هذا الانقسام الحاد، وجد السودانيون أنفسهم محاصرين بين قوتين لا تمثلان تطلعاتهم، بل تتنازعان على ركام وطن.
في هذا السياق، يُنظر إلى تعيين إدريس كـآخر رصاصة دبلوماسية في بندقية الفراغ. رجل القانون والتنمية يجد نفسه الآن أمام دولة مكسورة: لا مؤسسات تُعينه، ولا أرضية توافق سياسي يستند إليها، بل ساحة ملغّمة بالصراعات، وملفات من التعقيد ما يكفي لإحباط أي إصلاح.
الخراب المؤسَّس: حين يصبح التدمير استراتيجية دولة ظل
ما يحدث في السودان اليوم لا يُشبه فوضى الحروب العابرة، بل أقرب إلى مشروع مدروس لتفكيك الدولة من الداخل، بإصرار مريب ودموية باردة.
فـ”قوات الدعم السريع” لا تكتفي بالقتل ولا بالتشريد، بل تمضي إلى أبعد من ذلك:
تحرق القرى كما يُحرَق التاريخ، وتنتهك الأجساد كما تُنتهك السيادة، وتُطلق الطائرات المسيّرة لا لتُغير على مواقع عسكرية، بل لتحوِّل الأحياء السكنية إلى أطلال صامتة.
الطرق والجسور، محطات المياه والكهرباء، الأسواق والمستشفيات – كلها تُستهدف بلا تمييز، كأن المطلوب ليس كسب الحرب، بل محو السودان نفسه كفكرة وحدود وشعب.
إنه خراب مؤسَّس، يتجاوز منطق الحرب إلى منطق الإبادة الرمزية والمادية، حيث تصبح البنية التحتية خصمًا، والذاكرة الوطنية هدفًا، والمواطن عبئًا يجب تدميره أو تدجينه.
في هذا المشهد، لا تبدو “الدولة” غائبة فحسب، بل مستهدَفة عن عمد، كأن هناك من يكتب نهاية السودان بفصول محكمة وسيناريوهات معلنة.
مشهد ما بعد الحرب: ماذا يمكن لرئيس وزراء بلا أدوات؟
ما يزيد المأساة تعقيدًا أن إدريس يدخل المشهد بلا جيش موحّد، ولا ميزانية عامة، ولا مؤسسات فاعلة. الحصار الإنساني يشتد في دارفور، والقتل العرقي يُوثّق بكاميرات الهواتف، والملايين في الداخل والخارج يعانون من انسداد الأفق.
كيف يمكن لرجل دولة أن يبدأ عمله في بلد بلا دولة؟
لكن إدريس، رغم كل شيء، ليس مجرد موظف بيروقراطي. هو رجل عابر للأنظمة، له رصيد في الدبلوماسية الدولية، وخبرة في العمل مع الأمم المتحدة والمنظمات العالمية. يمكن له أن يمد الجسور مع العالم، ويعيد السودان إلى الطاولة الدولية – لا كملف إغاثي، بل كقضية دولة تُقاوم الإبادة وتستحق الحياة.
فرصة أخيرة… أم واجهة ناعمة؟
ما بين الخراب المؤسس والرهانات العالية، يقف كامل إدريس في مفترق طرق:
إما أن يتحول إلى زعيم إنقاذ حقيقي يُطلق مشروع إعادة بناء الدولة من تحت الأنقاض،
أو يُستهلك اسمه في مسرحية شرعية بائسة.
في كلتا الحالتين، لا يملك رفاهية الوقت، ولا ترف التردّد ، ففي السودان اليوم، إما أن تنهض الدولة… أو تُمحى.