عبر التاريخ الاستعماري، لم يكن التوسع مجرد احتلال للأرض أو فرض للسيادة، بل كان مشروعًا شاملًا للهيمنة على الجغرافيا والوعي والسيادة الرمزية. واليوم، في خضم التحولات الجيوسياسية العالمية، يُعاد إنتاج منطق الهيمنة ذاته، ولكن بأدوات جديدة، ضمن ما يمكن تسميته بـ “استعمار ما بعد الدولة القومية”؛ حيث تلعب القوى الإقليمية الصاعدة أدوارًا كانت حكرًا في السابق على القوى الاستعمارية الكلاسيكية. وفي هذا السياق، تبرز دول الخليج، وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة، بوصفها فاعلًا جيوسياسيًا طموحًا يعيد تشكيل توازنات القرن الإفريقي، ليس فقط عبر المال والدبلوماسية، بل باستخدام أدوات تتراوح بين التدخل العسكري، وإعادة تشكيل الأنظمة، والتحكم في الموانئ والممرات البحرية، إلى توجيه النخب الإعلامية والسياسية.
القرن الإفريقي – بما يمثله من موقع استراتيجي يتحكم في مفاتيح البحر الأحمر وخطوط التجارة البحرية، وارتباطه العضوي بمسرح الأمن العربي من اليمن إلى البحر المتوسط – تحوّل في العقد الأخير إلى مسرح للمنافسة الخليجية، حيث تمتزج الطموحات الاقتصادية بالأهداف الأمنية، وتتداخل المصالح القومية بمشاريع النفوذ العابر للحدود.
لكن السؤال الأعمق يبقى: هل يمثّل التدخل الخليجي – لا سيما الإماراتي – في السودان والصومال وإثيوبيا مجرد بسط للنفوذ؟ أم أنه يتجاوز ذلك ليُشكّل مشروعًا يهدف لإعادة صياغة بنية الدولة والمجتمع وفق منطق يخدم الهيمنة الجيوسياسية والأمنية لهذه القوى؟
بين الهيمنة الناعمة وإعادة إنتاج السيطرة
في الحالة الإماراتية، لا يمكن قراءة السياسة الخارجية كتحركات تكتيكية معزولة، بل كجزء من رؤية شاملة تعيد تعريف مركزية الدولة في محيطها الإقليمي. وقد بات واضحًا أن أبوظبي تبني نفوذها في القرن الإفريقي وفق مقاربة هجينة: توظيف الشركات “المدنية” مثل موانئ دبي، جنبًا إلى جنب مع الدعم العسكري واللوجستي لقوى محلية موالية، إلى جانب تفعيل القوة الإعلامية والدبلوماسية بشكل متكامل.
في السودان، لم يكن الحضور الإماراتي مجرد دعم لمرحلة انتقالية أو لمجلس سيادي، بل عملية إعادة هندسة لموازين القوى داخل الجيش والدولة. منذ الإطاحة بعمر البشير، وجدت الإمارات فرصة تاريخية لتغذية الانقسام بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، عبر دعم الطرف الثاني سياسيًا وعسكريًا، ما أفضى إلى صراع دموي على السيادة بين جناحي الدولة المسلحة.
لكن ما يدعو للتأمل هو أن الدعم الإماراتي لم يكن انفعالًا بمسار الأحداث، بل استثمارًا في تناقضات داخلية تم تأطيرها لصالح مشروع النفوذ الإقليمي، مستخدمًا سرديات مثل “مكافحة الإرهاب” أو “مواجهة الإسلام السياسي”، في حين أن النتائج على الأرض كانت تفككًا اجتماعيًا وتحللًا لمفهوم الدولة، ما يخدم بالنتيجة مشروع إعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة.
السودان: منقطة فاصلة بين الطموح الخليجي والممانعة الشعبية
يشكّل السودان حالة نموذجية لفهم تعقيدات التدخل الخليجي. فإلى جانب البعد الأمني والاقتصادي، يتداخل في السودان العامل التاريخي: إرث الدولة المركزية، وتقاليد المقاومة الشعبية، والبنية القبلية والإثنية المعقدة. وقد مثّلت الثورة السودانية منذ 2018 تحديًا لهذا المشروع، كونها خرجت عن النص الذي رسمته قوى الهيمنة، وجاءت بزخم شعبي لا يخضع لحسابات المحاور.
لكن سرعان ما سعت الإمارات، ومعها السعودية ومصر بدرجات مختلفة، إلى احتواء هذه اللحظة الثورية عبر دعم النخب العسكرية، وتحييد القوى المدنية، ثم لاحقًا، تسليح وتغذية الصراع المسلح. هنا، لا يختلف المشهد كثيرًا عن تجارب أخرى في التاريخ الاستعماري، حيث يتم استخدام أدوات “التفتيت الداخلي” لإضعاف التطلعات الشعبية نحو التحرر والسيادة.
بل إن منطق “سد الذرائع” – الذي تم استخدامه لتبرير دعم المليشيات كوسيلة لمنع سيطرة تيارات معينة – بات أداة لضبط الحراك السياسي والاجتماعي في السودان، بذريعة الحفاظ على الاستقرار، بينما الحقيقة هي تقويض لأي مشروع تحرري مستقل.
الموانئ كمفاتيح للهيمنة الجيوسياسية
في القرن الإفريقي، لا يمكن عزل الحروب والصراعات عن التحكم في البنية التحتية البحرية. فمن جيبوتي إلى بربرة، ومن ميناء بورتسودان إلى زيلع، تقود الإمارات مشروعًا متكاملًا لإعادة رسم خريطة الموانئ، وهو ما يعني السيطرة الفعلية على مفاصل التجارة والتموين البحري شرق إفريقيا. وقد شهدنا مؤخرًا الاتفاق المثير للجدل بين “جمهورية أرض الصومال” (صوماليلاند) والحكومة الإثيوبية حول منح الأخيرة منفذًا بحريًا، وهو ما تماهت معه الإمارات بشكل غير مباشر، رغم تعارضه مع وحدة الصومال.
التحكم في الموانئ ليس مجرد استثمار اقتصادي، بل سياسة لإعادة ترتيب التحالفات، وفرض أمر واقع يعيد إنتاج الاستعمار، ولكن بدون احتلال مباشر. فكما كانت الشركات البريطانية في الهند تمهد للتدخل العسكري، تقوم اليوم شركات إماراتية بدور رأس الحربة في النفوذ الجيوسياسي، مستخدمة أدوات السوق والتحالفات القبلية لإحكام السيطرة.
إثيوبيا والصومال: احتواء الدولة، وتسييج السيادة
إذا كان السودان يمثل مختبرًا لفهم التدخل العسكري الخليجي، فإن إثيوبيا تقدم نموذجًا للتدخل في بنية الدولة من خلال الاقتصاد والدبلوماسية. فقد راهنت أبو ظبي طويلًا على رئيس الوزراء آبي أحمد، باعتباره زعيمًا إصلاحيًا يملك طموحات كبرى، لكنها في الوقت ذاته وظفته كأداة لإضعاف نفوذ تركيا وقطر في القرن الإفريقي.
لكن المفارقة أن دعم الإمارات لإثيوبيا تزامن مع صمت على الانتهاكات في تيغراي، وتواطؤ مع مشاريع تهدد وحدة الصومال. فالتحالف الإماراتي مع صوماليلاند لم يكن فقط استثمارًا في ميناء بربرة، بل كان اختراقًا لكيان الدولة الصومالية، في لحظة تحاول فيها استعادة سيادتها بعد عقود من الانهيار.
هنا أيضًا، يتم استحضار مفردات “التنمية” و”مكافحة الإرهاب” لتبرير السياسات التي تصب فعليًا في إعادة إنتاج التبعية، وتكريس الانقسام، وفرض أجندة لا تنبع من مصالح محلية بل من اعتبارات أمن الخليج.
الخاتمة: نحو قراءة مقاومة للهيمنة الخليجية
لا يمكن فصل ما يجري في القرن الإفريقي عن منطق السيطرة الذي مارسته القوى الاستعمارية سابقًا، ولكن بأدوات ناعمة. فالمشروع الإماراتي لا يقتصر على تدخل أمني أو استثمار اقتصادي، بل هو مشروع لإعادة هندسة المجال السياسي والاجتماعي وفق رؤية تخدم النظام الإقليمي الذي تسعى أبو ظبي لتزعمه.
لكن التاريخ علّمنا أن مشاريع السيطرة، مهما كانت مغلفة بأغلفة التنمية أو الاستقرار، تصطدم في نهاية المطاف بإرادة الشعوب. وإن كانت قوى الهيمنة قد نجحت مؤقتًا في تفكيك المقاومة أو شراء النخب، فإن الموجة التالية من التحولات في القرن الإفريقي قد تشهد ولادة مشاريع ممانعة جديدة، تعيد الاعتبار للسيادة والكرامة، وتربط بين النضال المحلي والمقاومة العالمية ضد أنماط السيطرة الجديدة.
ففي النهاية، قد تكون أدوات السيطرة قد تطورت، لكن جذوة التحرر لم تخمد، بل تنتظر لحظة انبثاق جديدة.