حين انطفأت أضواء الخرطوم في منتصف أبريل 2023، لم تكن المدينة تغرق في الظلام فحسب، بل في فراغ الدولة نفسها. فقد انهارت مؤسسات الإدارة والخدمات، وتوقفت عجلة الحياة في عاصمةٍ لطالما كانت مركز القرار السوداني. وسط ذلك الانهيار، ظل جهاز المخابرات العامة يتحرك في صمتٍ محسوب، كمن يدير معركة الوعي الوطني حين عجزت الدولة عن إدارة نفسها. في تلك اللحظة، لم يكن الجهاز مجرد ذراعٍ أمنية، بل بدا كالعقل الذي يُعيد تعريف مفهوم الأمن الوطني في وجه الفوضى.
لقد كشفت الحرب الدائرة في السودان أن أخطر ما يمكن أن تواجهه دولة ما ليس العدو الخارجي، بل الانقسام الداخلي الذي يصيب وعيها الجمعي بالشلل. وحين تفقد الدولة وعيها، يصبح العقل المؤسسي آخر حصونها. في تلك اللحظة، انتقلت المخابرات السودانية من مرحلة العمل الأمني التقليدي إلى ما يمكن تسميته بـ«إدارة الوعي الوطني»، وهو الدور الذي لم يكن اختياريًا بقدر ما كان ضرورةً للبقاء.
منذ اندلاع الحرب، أدرك الجهاز أن المعركة لم تعد تُخاض في الميدان فقط، بل في فضاء المعلومة والمعنى. فقد أصبحت المعلومة سلاحًا حاسمًا في توجيه الصراع، وأصبح الحفاظ على وعي الدولة والمجتمع جزءًا من الأمن الوطني نفسه. هذا المفهوم، الذي يُعرف في الدراسات الحديثة باسم «الأمن المعرفي»، يعني حماية إدراك الدولة لذاتها من الانقسام، وصون وعي المجتمع من التفكك، وتحويل المعرفة إلى أداة دفاعٍ ضد الفوضى والانهيار.
منذ سقوط النظام السابق عام 2019، خضع جهاز المخابرات العامة لعملية إعادة هيكلة واسعة، قادها الفريق أبوبكر دمبلاب، ثم تولّى بعده الفريق جمال عبد المجيد، قبل أن يتسلم القيادة الفريق أول أحمد إبراهيم مفضل في أكتوبر 2021. هدفت هذه العملية إلى تحويل الجهاز من مؤسسةٍ مرتبطة بالنظام السابق إلى جهازٍ وطنيٍّ مستقلٍّ يخدم الدولة بمختلف أطيافها. لم تعد المخابرات جزءًا من الصراع السياسي، بل أصبحت حارسةً للدولة نفسها، في وقتٍ كانت فيه أجهزة الحكم الأخرى تتنازع الولاءات.
لقد تبنّى الجهاز ما يمكن تسميته بـ«الحياد الوطني»؛ أي أن يكون على مسافة واحدة من الجميع، دون أن يفقد التزامه الكامل بحماية الدولة. هذا الحياد لم يكن ضعفًا أو تردّدًا، بل كان تعبيرًا عن وعيٍ مؤسسيٍّ بأن الدولة أهم من السلطة، وأن بقاء السودان ككيان موحّد أولى من انتصار أي طرفٍ في الصراع.
ففي الوقت الذي انهارت فيه كثير من مؤسسات الدولة، بقيت المخابرات السودانية متماسكةً تنظيميًا وفكريًا، محافظةً على شبكة تنسيقها الداخلية، وقدرتها على جمع وتحليل المعلومات، بما يمكّنها من استشراف المخاطر قبل وقوعها.
وفي يناير 2020، اتخذت الدولة قرارًا بحلّ «هيئة العمليات» التابعة للجهاز، بعد احتجاجاتٍ محدودة لعناصرها. ورغم ما أثاره القرار من جدلٍ في حينه، فإن الجهاز نجح في تجاوز تلك المرحلة، واستمر في أداء مهامه الاستخبارية، مُثبتًا قدرته على التكيّف مع التحديات السياسية والتنظيمية. وقد شكّل ذلك نقطة تحوّل في مساره، إذ أصبح أكثر اعتمادًا على العمل التحليلي والمعلوماتي، وأقل ارتباطًا بالأدوار القتالية المباشرة.
ومع اندلاع الحرب الأخيرة، برزت المخابرات السودانية كإحدى المؤسسات القليلة التي حافظت على تماسكها واستمراريتها. فبينما انقسمت بعض الأجهزة، وانهارت الهياكل الإدارية، ظل الجهاز يحتفظ بقدرته على العمل في ظروفٍ بالغة الصعوبة. لم يكن دوره ميدانيًا فقط، بل معرفيًا أيضًا: جمع المعلومات، تحليلها، وتقديم التقديرات الاستراتيجية للقيادة العليا. لقد أدرك أن البندقية لا تكفي، وأن الحرب لا تُكسب بالقوة فقط، بل بالمعرفة والوعي.
لقد تجاوز الجهاز حدود وظيفته القديمة، ليصبح مركزًا للتفكير الوطني. فالمخابرات في هذه المرحلة لم تكن تراقب الأحداث فقط، بل كانت تحاول فهمها، وتفكيك سياقاتها، واستشراف مآلاتها. كانت تقرأ الخرائط السياسية والعسكرية والإنسانية في آنٍ واحد، وتوازن بين المعلومات القادمة من الميدان وبين التحولات الإقليمية والدولية التي تمس الأمن السوداني. بهذا المعنى، تحولت المخابرات من مؤسسة أمنية إلى عقل الدولة — عقلٌ يحافظ على توازنه حين يضيع الجميع بين الشعارات والبنادق.
ورغم أن عملها ظل بعيدًا عن الأضواء، فإن بصماتها كانت واضحة في أكثر من محطة، سواء في عمليات تأمين العاصمة في الأيام الأولى للحرب، أو في حماية البنى التحتية الحساسة، أو في ضبط محاولات الاختراق الإعلامي والمعلوماتي التي استهدفت بث الذعر والانقسام بين السودانيين. كان الجهاز في كثير من الأحيان هو الجدار الأخير بين الفوضى والفناء، والذراع التي حافظت على فكرة الوطن حين تلاشت ملامحه في الضباب.
تحت قيادة الفريق أول أحمد مفضل، اتسم أداء الجهاز بالهدوء والحكمة والابتعاد عن الاستعراض الإعلامي. كان التركيز على النتائج لا على التصريحات، وعلى المعلومات الدقيقة لا على البيانات الانفعالية. فقد أدركت القيادة أن معركة السودان الحقيقية ليست فقط على الجغرافيا، بل على وعي السودانيين أنفسهم، وأن الانتصار في الحرب لا يكون فقط بإخراج العدو من الأرض، بل بإخراجه من العقول.
إن تجربة المخابرات السودانية في هذه المرحلة المفصلية لا تعبّر عن نجاحٍ أمنيٍّ فحسب، بل عن تحوّلٍ في فهم معنى الأمن ذاته. فالأمن لم يعد مجرد سلطةٍ تراقب، بل عقلٌ وطنيٌّ يُفكر؛ لم يعد ردعًا، بل إدراكًا؛ ولم يعد وظيفةً مغلقة، بل مسؤوليةً وطنيةً شاملة.
وحين تتفكك الجيوش وتنهار المؤسسات، لا يبقى من الدولة سوى ذاكرتها الأمنية — تلك التي تحفظ وعيها وهويتها. وربما كان هذا هو ما أنقذ السودان من السقوط الكامل: أن بقي فيه عقلٌ يتذكّر حين نسي الجميع معنى الوطن.
لقد كانت المخابرات السودانية، في لحظة العدم الوطني، المؤسسة التي تذكّرت الوطن وهو يُنسى. وحين فقدت الدولة صوتها، بقي للجهاز صمته الواعي الذي يتحدث بالفعل لا بالكلمات. ومن هنا يبدأ معنى هذه السلسلة: العقل في مواجهة الفوضى — ليس عقل الجهاز فحسب، بل عقل السودان كله وهو يحاول أن يتذكّر أنه ما يزال حيًا.
وسيواصل الجزء الثاني تحليل الدور الميداني والإنساني للجهاز في إدارة معارك البقاء، ودوره الإقليمي في إعادة صياغة مفهوم الأمن السوداني وسط أوسع حربٍ في تاريخه الحديث.
