الخميس, أكتوبر 30, 2025
الرئيسيةمقالاتالسودان بلد غني يفقره أبناؤه وائل نورالدين - مونتريال

السودان بلد غني يفقره أبناؤه وائل نورالدين – مونتريال

منذ فجر الاستقلال، ظل السودان يعيش حالة من المفارقة الغريبة: بلد يمتلك من الخيرات ما يجعل غيره من الأمم يحلم ببعضها، لكنه يعاني من فقرٍ مدقع وتراجعٍ اقتصادي واجتماعي لا يليق بما حباه الله به من نعم. فالمشكلة لم تكن يومًا في قلة الموارد، بل في غياب الرؤية وسوء إدارة الثروة والسلطة معًا.

السودان بلد غني بمعادنه وأراضيه الزراعية الشاسعة وثرواته الحيوانية والنفطية، وغني أكثر بشعبه الذي أثبت عبر التاريخ أنه قادر على البناء والإبداع والصبر. غير أن هذا الغنى تحوّل إلى لعنة حين تَقدّم أبناء الوطن بمصالحهم الضيقة على مصلحة البلاد، واستبدلوا التنافس الشريف على التنمية بالتناحر على السلطة والثروة.

إن فترة حكم الرئيس البشير، كانت — رغم ما مرت به من تقلبات وضغوط سياسية واقتصادية — تمثل فرصة ذهبية قد لا تتكرر للنهوض بالسودان. فقد كانت أطول فترة حكم في تاريخه الحديث، ومرت بظروف استثنائية تمثلت في تدفق عائدات النفط وتفجّر موارده. في تلك السنوات، بدأ المواطن السوداني — داخل الوطن وفي المهاجر والمغتربات — يستشعر شيئًا من رغد الحياة وأمارات التحسن الاقتصادي.
إلا أن غياب الرؤى الاستراتيجية والخطط بعيدة المدى، إلى جانب انفصال جنوب السودان عن شماله، عجّل بانهيار تلك الفرصة التاريخية، فعاد السودان يئن من جديد تحت وطأة الفقر والصراع الداخلي، وتناسلت الحركات المسلحة التي رقصت على جثث الضحايا، تتلون وتتشكل بلا رؤية ولا مشروع وطني، همّها السلطة والمال والمناصب أكثر من همّها بناء الوطن.

لقد أضاع السياسيون والعسكريون على حد سواء فرصًا متكررة للنهوض، فكل حقبة جديدة تبدأ بشعارات الإصلاح والنهضة، وتنتهي بإعادة إنتاج ذات الأخطاء: الإقصاء، والفساد، والارتهان للخارج. والنتيجة واحدة: وطنٌ غنيٌّ يُدار بعقلية الفقر، وشعبٌ كريم يُعامل كمتسوّل في بلده.

الطريق إلى الخلاص ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب شجاعة الاعتراف بالذنب الجماعي، فالوطن لا يُبنى باللعن والخصومة، بل بالمراجعة والاتفاق على حدٍّ أدنى من الوطنية الصادقة التي تضع مصلحة السودان فوق كل اعتبار حزبي أو قبلي أو جهوي.

إن السودان اليوم بحاجة إلى مشروع وطني جامع يعيد ترتيب أولوياته على قاعدة العدالة والتنمية المتوازنة. مشروعٍ يحرّر القرار الوطني من الارتهان للمحاور، ويجعل الثروة السودانية في خدمة المواطن لا في خدمة نخبة صغيرة أو أجندات أجنبية.

ولا بدّ لنا كسودانيين أن نعيد تشكيل صفّنا الوطني، وأن نستفيد من أخطاء الماضي.
لقد جرّبنا كل ما يمكن تجريبه — وما لا يمكن أيضًا — وفشلنا.
حان الوقت لأن نلتقي مهما تفرقت بنا السبل، كما يلتقي النيلان في الخرطوم، لنؤسس لدولةٍ حديثةٍ بمعايير عالمية، تبدأ بإصلاح السلم الوظيفي، ولا تنتهي عند حدود الخدمات التي تليق بالمواطن السوداني وتستحقه.

سيظل السودان بلدًا غنيًا… لكن لن ينهض إلا حين يتصالح أبناؤه مع أنفسهم، ويؤمنون أن الغنى الحقيقي ليس في الذهب والنفط، بل في نزاهة الضمير وإخلاص النية للوطن.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات