الثلاثاء, أكتوبر 14, 2025
الرئيسيةمقالاتالعفو العام لا يُسقط الحق الخاص ...

العفو العام لا يُسقط الحق الخاص بقلم/ د. إسماعيل الحكيم


إن العدالة هي أساس المصالحات الوطنية عبر القرون .. ففي الوقت الذي يقترب فيه السودان من طيّ صفحةٍ داميةٍ من تاريخه المعاصر، ومع اقتراب ساعة الحسم ضدّ المليشيا المتمرّدة التي عاثت في الأرض فسادًا، يبرز سؤالٌ جوهريٌّ لا يمكن تجاوزه: من يملك الحق في العفو الخاص والمسامحة؟
لقد شهدت البلاد خلال الحرب انتهاكاتٍ مروّعة طالت الأبرياء في أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وارتُكبت جرائم بحقّ المدنيين لم تكن نتيجة قتالٍ مشروع، بل كانت عدوانًا صريحًا على قيم الإنسانية والقانون. ومع اقتراب النصر المؤزر وعودة الدولة لهيبتها، بدأ بعضُ الذين تورّطوا في دعم تلك المليشيا، أو استفادوا من حمايتها، يسعون اليوم إلى التبرّؤ من الماضي والانضواء من جديد تحت مظلة الوطن، مطالبين بالعفو والصفح.
غير أنّ الحقيقة القانونية والإنسانية الثابتة هي أنّ العفو العام الذي يصدر بقرارٍ من الدولة لا يُسقط الحقّ الخاصّ للضحايا. فلكلّ من تضرّر من تلك الجرائم حقٌّ أصيلٌ في المطالبة بالإنصاف والقصاص، ولا يملك أيّ مسؤولٍ مهما علت مرتبته، أن يُلغي هذا الحق أو يتنازل عنه نيابةً عن أصحابِه.
إنّ إعلان العفو العام يأتي في سياق المصلحة الوطنية العامة، ويهدف إلى تشجيع العودة إلى الصف الوطني وإتاحة الفرصة لمن لم تتلطّخ أيديهم بالدماء ليكونوا جزءًا من مسيرة إعادة البناء، لكنّه لا يمكن أن يكون مظلةً تبرّر الإفلات من العقاب أو تمحو آثار الجرائم الفردية والجماعية التي ارتُكبت بحق المواطنين. فالمصالحة الوطنية الحقيقية لا تقوم على النسيان، بل على الاعتراف بالخطأ، والمساءلة العادلة، والعدالة الانتقالية المنصفة التي تحفظ للدولة هيبتها وللضحايا كرامتهم.
إنّ السودان الذي ننشده لا يبنى على التسامح الأعمى، بل على العدالة الراسخة التي تُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع. فالعفو دون حسابٍ يُكرّس للظلم، بينما القصاص العادلُ هو الذي يُقيم دعائم السلام المستدام.
ولذلك ينبغي أن تكون كل إجراءات التسوية والمصالحة محكومةً بسيادة القانون، وأن يُفصَل فيها بين من حمل السلاح مضطرًا أو مخدوعًا، وبين من مارس القتل والنهب وانتهاك الحرمات عن وعيٍ وإصرار. فهؤلاء لا يشملهم العفو، ولا تُغسل أيديهم إلا بالعدالة.
إنّ دماء الأبرياء لا تُشترى بالعواطف، ولا تُمحى بمرسومٍ إداري، ولا تُطوى صفحاتها إلا بعد أن يقول القضاء كلمته. فالعفوُ العامّ قرارُ دولة، أمّا الصفحُ الخاص فهو حقّ إنسانيٌّ شخصي لا يُنتزع إلا من أصحابِه، وهم وحدهم من يملكون أن يعفوا أو أن يطالبوا بالقصاص.
هكذا فقط يمكن أن ينهض السودان الجديد: بوطنٍ يُقيم المصالحة على العدل، لا على النسيان. Elhakeem.1973@gmail.com

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات