ارتفعت كلمات الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في قاعة القمة العربية الإسلامية بالدوحة، محمّلة بدلالات أعمق من كونها خطاب سياسي عابر ومشاركة جوفاء في عرس عربي حزين إذ جاءت عباراته امتدادًا لموقف راسخ يحمله السودان منذ عقود تجاه القضية الفلسطينية ودعم نضال الشعب في غزة مع رفض أي محاولات لتطبيع العلاقة مع الكيان الصهيوني أو منحه شرعية لوجوده على أرض اغتصبها بقوة السلاح ومؤازرة أمريكية غربية بائسة..
بدا خطاب البرهان بأنفاس سياسية تؤكد حساسية المرحلة التي تعيشها المنطقة، حيث تتداخل حسابات الحرب في غزة مع توازنات القوى الدولية والإقليمية. ومع ذلك فإن السودان، الذي يخوض حرب الكرامة ضد مليشيا متمردة لم يتردد في أن يجدد التزامه بقضية الأمة المركزية. فقد وجه البرهان رسالة واضحة للمؤتمرين أن انشغال السودان بملفاته الداخلية لا يعني تخليه عن ثوابته القومية والأخلاقية ، وفي مقدمتها دعم المقاومة الفلسطينية.
أما دبلوماسيًا، فقد حمل الخطاب لغة دقيقة تزاوج بين المبدئية والواقعية. فبينما أكد البرهان وقوف السودان إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقه المشروع في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، شدّد أيضًا على ضرورة وحدة الموقف العربي والإسلامي في مواجهة الضغوط الدولية، محذرًا من أن أي تهاون سيمنح الاحتلال المزيد من الوقت لترسيخ مشروعه الاستيطاني الباطل وهنا يمكن القول إن خطاب البرهان أعاد السودان إلى مربع الالتزام التاريخي الذي ميّز مواقفه في القمم العربية منذ الخرطوم 1967 و”اللاءات الثلاث” الشهيرة.
إن رفض الاعتراف بإسرائيل الذي جدد البرهان التأكيد عليه ليس شعاراً ولا تعاطفاً لحظياً إنما هو استعادة لمعنى المقاومة السياسية في زمن تكاثرت فيه المبادرات الهشة والصفقات الملتبسة. وقد بدا الخطاب بمثابة إعلان صريح بأن السودان رغم جراحه ومعاناته لن يكون جزءًا من معسكر التطبيع، ولن يبيع قضيته الأولى بأثمان رخيصة أو وعود جوفاء.
في عمق هذه الرسالة، برزت دلالة أخرى لا تقل أهمية عن سابقاتها أن السودان الذي يحارب للحفاظ على سيادته ووحدته الداخلية، يربط بين معركته ضد التمرد ومعركة فلسطين ضد الاحتلال. فكلاهما معركة كرامة، وكلاهما يتطلب الثبات والصمود في وجه قوى مدججة بالسلاح والدعم الخارجي. وهذا الذي اكتسب خطاب البرهان بُعدًا أخلاقيًا حين أعاد صياغة المعركة في غزة كجزء من معركة الأمة جمعاء.
لقد قدّم البرهان في الدوحة خطابًا لا مهادنة فيه ولا مساومة، بل رسّخ لمكانة السودان كصوتٍ حاضرٍ في القضايا الكبرى للأمة، مهما اشتدت أزماته الداخلية وتكالبت عليه الأعداء . إنه خطاب يضع النقاط على الحروف دون مواربة لا أمن ولا استقرار في المنطقة دون إنصاف فلسطين، ولا شرعية لكيانٍ قام على أنقاض شعبٍ أعزل، ولا مستقبل لعالم عربي يفرّط في ثوابته التاريخية. Elhakeem.1973@gmail.com